كتب كثير من أهل الحق من علمائنا في التجديد ورجاله ومناهجهم، وهو كلام جيد ونافع، وخصوصا حينما يعرضون إلى الأزمنة وأحداثها، وكيف واجه العلماء الأبرار هذه الأزمنة وهذه الأحداث بالاجتهاد والحكمة... وكل تجديد في أي باب من أبواب العلم لا بد أن يكون فَهْمًا بالغ الدقة وبالغ العُمق لهذا الباب، وإلا كان خبطًا وخلطًا وفسادًا.
فإذا كان التجديد مُتّصلاً بدين الله فلا بد أن يكون فهما بالغ الدقة والعمق لكلام الله وكلام رسوله عليه السلام.
وأهم ما يعين على تجديد الخطاب الديني الذي هو في حقيقته بلاغ منّا للناس عن الله ورسوله أن نعود إلى بلاغه عليه السلام عن ربه؛ لأنه عليه السلام صاحب الخطاب الديني الأول. ومن أهم ما يؤسَّس عليه تجديد الخطاب الديني أمران: الأول الفهم الواعي لمادة الخطاب ثم إبلاغها إلى قلوب الناس في أحسن صورة من اللفظ، والفهم الواعي لمادة البلاغ يلاحظ فيه ما قاله الشافعي من بلوغ أقصى الجهد في تحصيله نصًا واستنباطًا وهذه الجملة من أنفس ما يقرأ أهل العلم. أولا لأن بلوغ أقصى الجهد لا يأتي إلا بخير،ٍ والثاني النص الذي يعني الفهم المستوعب الواعي، والثالث الاستنباط الذي يتجاوز الظاهر إلى ما وراءه، والذي وراء الظاهر عوالم شديدة الاتساع أو كما قالوا: «منَادح لو سارت بها العيس كَلَّت» هذا في كلام العلماء الكرام الأكابر وفي الشعر ثم هو في كلام الله وفي كلام رسوله ﷺ لا تحدها حدود، ومن جلال وعظمة كلام الله وكلام رسوله ﷺ أنهما يمدان كل مستنبط بما يفي بحاجته؛ لأنهما لم يكونا لزمن معين وإنما للأزمنة كلها، وعطاء الكتاب والسنة لأهل زماننا كعطائهما لأهل كل زمان إلى يوم البعث؛ لأن الذي في دين الله وأخرج الناس في الزمن الأول من الظلمات إلى النور باق يخرج الناس من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة، فهو متجدّد أبدًا والمطلوب أن يتجدد في أنفسنا.
وفي الكتاب العزيز إشارة إلى تجديد من باب آخر وهو أن العلم سيكتشف آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وأن هذه الكشوف العلمية ستتوالى، وأنها سيتبين بها أن الذي بين الدفتين حق لا شك فيه، وذلك في سورة فصلت:
"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت: 53)
والسينُ في قوله: "سَنُرِيهِمْ" تعني أننا سنرى شيئًا لم نره قبل، فإذا كان خلق الله لهذه الآفاق وهذه الأنفس دليل الوحدانية فإن الذي سنراه هو تفاصيل ودقائق هذا الخلق، ومعنى هذا أن تقدم العلم المكتشف لأسرار الوجود في الآفاق وفي الأنفس ستتسع معه دائرة المؤمنين وتتناقص دوائر الملحدين، ثم في الآية إشارة إلى الربط الوثيق بين الكتاب المقروء وهذا الكون الصامت، وأن زيادة العلم بالكون تعني زيادة الإيمان بالكتاب، وحسبك من هذه الشبكة أن القرآن العظيم سمّى ما في الكون من أدلة على وجود المعبود بحق آيات، وسمّى ما في القرآن آيات، وفي بعض المواضع ذكر آيات الكون ثم عقب بمثل قوله تعالى:
" تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" (الجاثية: 6)
وهذا يعني قوة التماثل بين آيات الله في الكون، وآيات الله في الكتاب، وإذا كان هناك كتائب من العلماء المنقطعين في علوم الكون وأن هذه الكتائب تُرينا آيات الله بعيوننا، فالواجب أن يقابل هذا بالجد الواجب البالغ أقصى الجهد في آيات الله التي أنزلها علينا، والتي يرى الناس من نتائج جدنا فيها آيات الله بعقولهم، وشيء آخر في هذا التماهي بين آيات الله في الكتاب، وآيات الله في الكون، حتى كأن الكتاب كون مقروء، نزل من السماء إلى الأرض، أقول هذا التماهي يعني من وجه آخر أنه كما أن أي شيء في الكون ليس له مصدر لوجوده إلا الله، فكذلك كل آية في هذا المكتوب يستحيل أن تكون من غير الله، وأن إعجاز القرآن هو ذاته إعجاز هذه الآفاق، وهذه الأنفس.
هذا: وشيء آخر يجب الانتفاع به في تجديد الخطاب الديني وهو أيضا عقد شبكة بين البلاغ الذي هو رسالة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وبين الخطاب الديني الذي هو رسالة ورثة النبوة من العلماء العاملين، وكما أنه عليه السلام ليس عليه إلا البلاغ كذلك أصحاب الخطاب الديني ليس عليهم إلا هذا الخطاب الديني الذي هو البلاغ، وعلينا أن نتلمّس ما يقيم صلاح الخطاب الديني وإصلاحه من بلاغه ﷺ، ولو رجعنا إلى السنة لخرجنا بكل ما يتطلبه تجديد الخطاب الديني وسأضرب مثلا لذلك من كلامه عليه السلام المشهور المتداول: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر». أول ما يلاحظ أنه عليه السلام بلغ الغاية في بعث النفوس التي يودعها بلاغه وجعلها تستشرف وكلها يقظة فإذا جاء البيان قرَّ فيها وتمكن، وقد قال العلماء: ليس إخبارك الشيء بغتة غفلاً كإخبارك به بعد التهيئة والتوطئة. وأظنهم أخذوا هذا الأصل البلاغي من طريقته صلوات الله وسلامه عليه، ثم راجع كيف عبرَّ عليه السلام عن المعنى؟ راجعْ قوله: «من كنّ فيه» وكان يمكن أن يقول من اتصف، والفرق شاسع بين الكلامين؛ لأن كلامه صلوات الله وسلامه عليه يعني أنه صار ظرفا لهن وهن سواكن فيه، وكأنهن غرسن فيه وأقمن فيه كما يقيم الساكن في سكنه، وهذا يعني من وقع فيهن ثم سارع ورجع قبل أن يكنّ فيه، فليس منافقًا وإنما هي الذنوب أو الخطايا التي لا يعرى منها الناس، ثم كلمة (منافقا خالصًا) ومعناها أن الكاذب في حلفه والغادر في عهده والمخلف في وعده والفاجر في خصومته لم يبق في نفسه بعد هذه الأربعة مكانة لفضيلة، وأن سكنى هذه الموبقات في النفس تطرد كل خير فيها.
وتكفينى هاتان اللمحتان المقتبستان من بلاغة بلاغه ﷺ، اللمحة الأولى: هي براعة ولباقة وبلاغة التعامل مع الجماعة المخاطبة بالخطاب الديني وكيف نهيئها ونستثيرها لتلقي ما نريده من كلام صحيح دقيق محكم، واللمحة الثانية: هي الدقة البالغة في العبارة عن المعنى المراد إيصاله حتى يكون دينا لا يحوم حوله ريب، ثم إننا قد نجد شيئًا مثيرًا ومبهما في البلاغ الذي وافانا من الحيّ القادر ونحتاج إلى وقفة عنده لنتبين سره من ذلك ما رواه سيدنا المصطفى: من أن سارق البعير يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء وأن سارق الشاة يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة لها ثغاء.
قال عليه السلام: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رُغاء يقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلَّغتك» ثم يمضي الحديث فيذكر: الفرس الذي له حمحمة والبقرة التي لها خوار والشاة التي لها ثُغاء، وفي الكل يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لله شيئا قد بلغتك».
والمراد بالنهي هنا ليس ما دخل عليه حرف النهي، وإنما النهي عن الفعل المؤدي إلى هذا، يعني لا تفعلوا حتى يكون هذا والذي بلغت وليس هو المقصود هو أن صاحب هذه الخزايا في المشهد المشهود يلتفت إلى سيدنا الرسول ويطلب منه الغوث، وأن سيدنا عليه السلام يلتفت إليه ويقول له: لا أملك لك شيئًا، ومعناها أني لو كنت أملك لك شيئًا لأغثتك، وهذا يظهر فرط حب أهل الشهادتين لرسول الله ﷺ وإن كانوا منحرفين، ويظهر حب رسول الله ﷺ لأمته وإن كانوا أصحاب كبائر، قلت: هذا غير مقصودي، وإنما مقصودي أن هذه الأموال المسروقة كانت مسالمة للذي سرقها، وكانت فقط تُشهِّر به، فالبعير يرغو والفرس يحمحم، والبقرة تخور، والشاةُ تثغو، وهذا بخلاف مال مانع الزكاة؛ فقد ذكر ﷺ أنه لا يجيء يوم القيامة وهو على رقبته يصيح وإنما ذكر أنها إن كانت إبلا تجيء يوم القيامة وهي موفورة العدد وموفورة السلامة، وقد بُطِح له في قاع وهي تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها، يمر عليه أولها فإذا جاء آخرها عاد عليه أولها، وأن الذي يفعل به هذا ليس هو نصاب الزكاة الذي منعه، وإنما المال كله، وهكذا إذا كان غنمًا أو كان بقرا كل ثروته تطؤه بأظلافها وتعضه بأفواهها وتنطحه بقرونها، وسأذكر لفظه عليه السلام في الذهب والفضة لأن فيه ما ليس في غيره، قال عليه السلام: «ما من صاحب ذهب، ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار» انتهى ما أردته من كلامه ﷺ، وقبل أن أتكلم في الذي أردته أراجع قوله عليه السلام: «صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم» وتأمل هذا لتقف على سره، وراجع «صفائح من نار»؛ وكان هذا يكفي وإنما أضاف عليه السلام «فأحمي عليها»، وكان هذا يكفي، وإنما أضاف عليه السلام «في نار جهنم» يعني لم تكف أن تكون الصفائح من نار، وإنما أحمي عليها، ثم أحمي عليها في الجحيم يعني صار لها موقد في داخل الجحيم يُحمى عليها في هذا الموقد، وعليك أن تراجع أنت لتدرك مدى الألم ومدى الغضب، وأن هذا شامل لكل ذهبه وفضته التي هي ملكه واكتسبها من حلال، ولكنه لم يؤد حق الله فيها، ولم يُكتف في تعذيبه بالقدر الذي منعه، وإنما صار المال كله جحيما وأشد من الجحيم؛ أنه يُحمى عليه في داخل الجحيم، ولم يكتف بأن يُحمى عليه بالجحيم، وقل لي بالله عليك، أيهما أولى بهذا العذاب: الذي سرق الذهب والفضة أم الذي اكتسبها من وجه الحلال ومنع حق الله فيها، ولماذا كان الغضب على هذا أشد؟
لا شك أنه عليه السلام يبلغنا عن ربه، وأنه سبحانه:
" لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء:23 )
وإنما نريد البحث عن الحكمة لأن في معرفتها خيرًا كثيرًا لنا، وزكاة المال طهر له، وسميت زكاة لأنها تطهر المال، وقد قال عليه السلام في الحديث الذي معنا: «لا يؤدي منها حقها»، فدل ذلك على أن الزكاة التي هي حق الله والتي هي حق الفقراء هي أيضا حق المال، وكأن المال ذو حق يُطالب به، ويغضب عند منعه، والزكاة للفقراء والمساكين وهم الطبقة المطحونة في المجتمع، وتجد المولى جل وتقدس وهو الغني الحميد عند هذه الطبقة؛ والفقراء عياله، والصدقة تقع في يده قبل أن تقع في يد المسكين، وقد فرض علينا الصدقة الواجبة التي هي الزكاة، وندبنا إلى صدقات البر، وجعل مثلها كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، ثم هو سبحانه يضاعف لمن يشاء، وأخبر سبحانه أنه يثمرها لنا حتى تصير مثل أُحد، وأنه جل وتقدس يقينا النار ولو بشق تمرة، وهذا وغيره كثير جدا يدل دلالة ظاهرة على أن رعاية هذه الطبقة المطحونة في مجتمعاتنا عند الله بمكان. فإذا أدار صاحب المال ظهره إلى ذلك كله كان جزاؤه ما ترى، وأصل هذا الحديث قوله تعالى:
" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة: 34)
والمراد: ولا ينفقون زكاتها في سبيل الله، ثم قال سبحانه:
" يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" (التوبة: 35)
راجع قوله: " هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ"، وقوله: "فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" ولم يقل سبحانه هذا عقاب ما كنزتم وذوقوا عقاب ما كنتم تكنزون، وإنما هو ما كنزنا ونذوق الذي كنزنا، يعني أن صفائح النار هي ذات الذهب وأن الإبل التي تطأ مانع الزكاة بأخفافها، وتعضه بأفواهها هي ذات إبله، والحديث بيان للآية، والذي غلّ من مال الغنيمة أو الذي سرق من مال غيره إنما اعتدى اعتداء واحدا، وهذا اعتدى على المال، ومنعه حقه، واعتدى على أصحاب الحاجات ومنعهم حقهم، وأدار ظهره لوعيد الله، وصرف نظره عن وعده سبحانه بالأضعاف المضاعفة، والثواب والعقاب لا يكون بحجم العمل، وإنما يكون بما جرى في القلوب، فقد تتقي النار بشق تمرة أو تتقلب في الجنة بسبب غصن شوك أزحته عن الطريق خشية أن يؤذى المسلمون، وقد تُصفح لك الصفائح من نار ويُحمى عليها في النار لأنك مَنَعْتَ حق الفقير والمسكين وابن السبيل، ثم إن المال الذي في يدك هو مال الله جعلك الله مستخلفا فيه، ثم سألك أن تعطي من ماله لعياله فأبيت وهذا عقابه لك، ولا تلومنّ إلا نفسك.
ونحن حين نُحصل كلام أهل العلم بدقة وسداد، وإحاطة لدقيقه وجليله نكون قد أمسكنا ما أنزله الله على رسوله فاستقى منه الناس، وحين نفكر ونراجع ونجتهد بعقولنا لننبت نبتة -وإن قَلّت- فنحن على طريق الاجتهاد وطريق التجديد، ثم يصيب كل منا ما يُتاح له، وما دُمت تقرأ وتراجع وتفكر وتستخرج فأنت مجدد. التحصيل وحده هو إمساك الماء، أما أن نجعل التحصيل بداية الطريق ثم نعقبه بالتدبر والتفكير والتفتيش فيما حصلته والبحث في خباياه عن خفاياه فنحن نجدد.
وإذا كنا نقول إن المجددين في زماننا هم شلتوت والرافعي ومحمود شاكر والغزالي، والخضر حسين ونذكر ما نذكر، فإننا نعد الذين قطعوا أشواطًا تُذكر ولبِنات تُذكر ولهم خطوات أوسع، وهذا لا يمنع من أن يكون أكثر المنقطعين للبحث والتدبر والنظر من المجددين، وسيكون هذا موضوع المقالة الثالثة إن شاء الله.