31 مايو, 2023

مدن صينية عرفت الإسلام

مدن صينية عرفت الإسلام

ظل الأزهر الشريف وعلى مدى تاريخه الطويل حريصًا كل الحرص على العناية والاهتمام بأحوال المسلمين في كل بقاع الأرض ومعرفة واقعهم ومطالبهم ونشر العلم الديني والفِكر الوسطي بينهم، وبدورها فقد أعدَّت وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر عرضًا موجزًا لحياة المسلمين في عدد من المدن والمقاطعات الصينية التي عرفت الإسلام، ضمن سلسلة بعنوان "مدن صينية عرفت الإسلام".

وفي هذه الحلقة نأخذكم مع أحد أهم وأعرق المقاطعات الصينية وهي مقاطعة شانشيshanxi 陕西، بالإضافة إلى عاصمة المقاطعة مدينة شيآن 西安Xi An؛ وهي أحد عواصم الصين قديمًا والتي دخلها الإسلام مُنذ قرون. وتعد شيآن واحدة من العواصم الأربع العظمى القديمة للصين (لويانغ Luòyáng، شيآن، ونانجينغ Nánjīng، وبكين)، وقد اتخذتها بعض العائلات الحاكمة في الصين مقرًا للحكم.

ونظرًا لما تمثله مقاطعة شانشي ومدينة شيآن من أهمية سياسية وتاريخية جعلها مركزًا للثقافة الإسلامية الصينية، فقد خصصت وحدة اللغة الصينية جزئيْن من هذه السلسلة؛ الأول لعرض التاريخ الثقافي والموقع الجغرافي للمقاطعة والمدينة وتاريخ دخول الإسلام إليهما، بينما يتناول الجزء الثاني الثقافة الإسلامية في مدينة شيآن وأهم المساجد فيها.

مقاطعة شانشي- الموقع والتاريخ

من ضمن (٢٢) مقاطعة صينية رئيسة في الصين، تقع مقاطعة شانشي في الشمال، وتُعد واحدة من أهم أماكن ولادة الأمة الصينية، كما أنها أحد المقاطعات الداخلية في الصين، وعاصمة المقاطعة هي مدينة شيآن التي يمر بها النهر الأصفر، وتحدها من جهة الشرق مقاطعة شنشي ومقاطعة خينان 河南Hénán، ومن الغرب نينغشيا 宁夏Ningxia وقانسو 甘肃Gansu، ومن الجنوب سيتشوان 四川Sìchuān وتشونغتشينغ Chóngqìng重庆 وهوبي Húběi湖北، ومن الشمال منغوليا الداخلية 内蒙古Nèiménggǔ.

الإسلام في مقاطعة شانشي

دخلت المقاطعة في الإسلام عندما سمح الإمبراطور قاوزونغ Táng gaozang 唐高宗 -من أسرة تانغ- رسميًّا بممارسة الإسلام في عام 651 م، حيث تم استقبال الوفود من الدولة الإسلامية. وتشكل قومية هِوي أغلبية بين السكان المسلمين في المقاطعة، ويرجع تشكيل قومية هوي تدريجيًّا مع التطور الطبيعي للوجود الإسلامي في الصين، فمع زيادة التبادلات التجارية عبر طريق الحرير التاريخي الشهير والعلاقات الإنسانية الناجمة عنها، لم يكن التجار العرب يحملون بضائع يبيعونها أو يشترونها فحسب، بل كان الإسلام الناشئ في الجزيرة العربية قد استطاع أن يكون جزءًا لا ينفك من حضارة الإنسان المسلم والعربي؛ لذلك كان هؤلاء التجار يحملون معهم ثقافات وفلسفات ومفاهيم ومعتقدات الإسلام التي تقبلها الكثير من الصينيين على مدار السنين. ومن تلك المقاطعات التي دخلها الإسلام من خلال طريق الحرير مقاطعة شانشي، والتي تضم العديد من المدن الهامة التي لعبت دورًا تاريخيًّا في السياسة والثقافة الصينية، أهمها مدينة شيان 西安Xi An، ومدينة داتونغ Datong 大同市.

مدينة شيآن

داخل مقاطعة شانشي ومن بين مُدنها الكثيرة، تتميز مدينة شيآن عاصمة إقليم شانشي -والتي تعد أحد أقدم عواصم الصين- بأنها بداية طريق الحرير البري الذي ربط الصين بالعالم ونقل المنتجات الصينية إلى أرجاء العالم خاصة العالم العربي والإسلامي، كما أن موقعها الجغرافي كان له دور هام في جعلها عاصمة لثلاث عشرة إمبراطورية في تاريخ الصين. وتحمل المدينة اسمًا قديمًا وهو تشانغآن 长安Cháng'an، ويوجد بها العديد من الآثار التاريخية، أهمها: ضريح الإمبراطور الأول تشين Qínshǐhuáng秦始皇، أو ما يعرف باسم جيش الطين، ويحتوي هذا الضريح على مجموعة من التماثيل الطينية لجنود جيش الإمبراطور الذي أمر بصنعها ودفنها معه في نفس الضريح، وقد تم بناؤه بالفعل ببراعة مثيرة للدهشة، لدرجة أنه ليس هناك جنديين مُتشابهين في هذا الجيش بأكمله. ومن الأثار التي توجد بالمدينة أيضًا معبد (باغودا الإوز البرية العملاقة) أو ما يعرف بالصينية dayanta大雁塔 (برج دا يان)؛ وهو معبد بوذي قديم يقع في جنوب مدينة شيان على شكل برج مائل يتكون من سبعة طوابق ويمتد تاريخه لأسرة تانغ الصينية في القرن السابع الميلادي.

الإسلام في مدينة شيآن

لا يختلف دخول الإسلام في مقاطعة شانشي عن العاصمة شيآن، لكن غير معروف على وجه الدقة بدء انتشار الإسلام في هذه المدينة، وتُرجح الروايات التاريخية أن عهد أسرة تانغ هي البداية لمعرفة المنطقة بالإسلام. وكان لإرسال العديد من البعثات والرسل العرب إلى تشانغآن (الاسم القديم للمدينة)، مع تزايد التبادلات بين البلدين، دور كبير في التواجد الإسلامي بالمدينة؛ فقد سافر عدد كبير من التجار العرب برًّا إلى شيآن عبر العديد من المدن التي يمر عليها "طريق الحرير" من شمال جبال تيانشان إلى جنوبها، وتجمعوا في غرب مدينة شيآن للقيام بأعمال تجارية. في ذلك الوقت، وطبقًا لقوانين أسرة تانغ، كان التجار العرب والفرس المسلمون يعيشون فيما يسمى بـ "Fanfang" وهي منطقة تم إنشاؤها خصيصًا للأجانب، لكن لم يلبث هؤلاء الوافدين أن تزوجوا واشتروا الحقول والمنازل وعاشوا بسلام في المدينة ولم يرغبوا في العودة.

ومع القضاء على الدولة العباسية في بغداد على يد الغزو المغولي للمناطق الإسلامية، ظهر تواجد إسلامي كبير في المدينة والمناطق المحيطة بها؛ حيث حكمت الصين أسرة يوان، والتي استعانت بالمسلمين في بناء وتطوير الصين، مما كان له أثر كبير على تطور الأنشطة الدينية، وتغير العادات المعيشية للمسلمين داخل المدينة؛ فبدأ بناء المساجد في المناطق التي يقطنها المسلمون في مدينة شيآن. وبالرغم من وجود المساجد التي لم تكن كبيرة في الحجم، إلا أن تطور الأوضاع وتغير الأسر الحاكمة في الصين، واحتياج الحكام إلى الخبرات العلمية والإدارية للمسلمين، جعل للوجود الإسلامي في الصين عامة -وخاصة في مدينة شيآن- ثقل واضح. ظهر ذلك جليًّا في عهد أسرة يوان ذات الأصول المغولية؛ فقد خدم العديد من الشخصيات الإسلامية رفيعة المستوى بمدينة شيآن في البلاط الإمبراطوري والحكومة المحلية، واعتمد حكام أسرة يوان عليهم بشكل كبير في المراكز القيادية، مما شجع بشكل واقعي على انتشار الإسلام وتطوره في الصين.

ومع هذا التطور الملحوظ في الوجود الإسلامي في المدينة، تدفق مسلمون من المناطق الغربية إلى مدينة شيآن مع الجيش المنغولي الذي اجتاح بجيوشه العالم الإسلامي، وتزوج الكثير منهم في مدينة شيآن وبقوا لفترة طويلة وأصبحوا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الصيني في شيآن، وظهر ذلك التكوين الحقيقي "لقومية هوي" بعد سلالتي "سونغ" و"يوان".

وبسبب الزيادة السريعة في عدد السكان المسلمين من ناحية واستعادة العلاقات الوثيقة مع الدول العربية في أوائل القرن الثامن عشر من ناحية أخرى، استمرت المناطق السكنية للمسلمين بمدينة شيآن في التوسع في عهد أسرة "تشينغ"، وفي نفس الوقت تطور بناء المساجد في المناطق التي يقطنها المسلمون بسرعة؛ لتصبح أكبر مساحة وأكثر أهمية.

وتحمل المدينة العديد من الآثار الإسلامية؛ تتمثل أغلبها في المساجد المنتشرة، والتي تعكس العمق التاريخي والثقافي للإسلام في الصين، وتُعرض بالتفصيل -إن شاء الله تعالى- في الجزء الثاني من (مدن صينية عرفت الإسلام- مقاطعة شانشي- مدينة شيآن).

وحدة اللغة الصينية

 

 

قراءة (1561)/تعليقات (0)