ينص دستور الدولة الهندية في المواد (25 - 28) على أنّ الدولة لن تميز أو ترعى أو تتطفل على عمل أي دين، بل تحمي الديانات أو الجماعات الفردية، بإضافة الحقوق الدينية على أنّها حقوق أساسية؛ فتنص المادة (٢٥) على أنّ "جميع الأفراد متساوون في التمتع بحرية الاعتقاد والحق بالمجاهرة بدينهم وممارسته ونشره، مع الالتزام بالنظام والأخلاق والصحة العامّتَيْن".
ولمّا كان لزامًا على كلِّ مجتمع أن يتجهز بجهاز شرطة يكلِّفه بمهمةِ "حفظ النظام" و"فرض احترام القانون"، والمساهمة في ضمانة حريات المواطنين، ومكافحة الجريمة بكل أنواعها، وإنفاذ القانون والدستور إنفاذًا صارمًا دون الانحياز لفئة محددة من الشعب، إلا أن البعض من منتسبي الشرطة الهندية ما زال يعامل مسلمي الهند بكل قسوة واضطهاد وعنف، ضاربًا عُرْضَ الحائط بأي حق دستوري لهم على تلك الأرض، وهو ما تسنى رصده في الآونة الأخيرة.
فعلى المستوى الدولي، أدانت العديد من منظمات حقوق الإنسان الأسلوبَ القسري العنيف الذي تنتهجه الشرطة الهندية في حق المسلمين الهنود؛ ففي أكتوبر ٢٠٢٢م اتهمت منظمة "هيومان رايتس ووتش" (Human Rights Watch) السلطات الهندية بممارسة التمييز واستخدام العقوبات التعسفية على نحو متزايد ضد المسلمين الذين "يُظَنّ" أنهم انتهكوا القانون.
وقالت المنظمة إن السلطات هدمت منازل المسلمين وممتلكاتهم دون إذن قانوني، في العديد من الولايات التي يحكمها حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي، وجلدت في وقت قريب رجالًا مسلمين علنًا بتهمة تعطيل مهرجان هندوسي.
وصرحت السيدة "ميناكشي غانغولي" -مدير قسم جنوب آسيا لدى "هيومن رايتس ووتش"- قائلةً: إن السلطات مارست العنف ضد المسلمين في ولايات هندية عدة، واصفة إياه بنوعٍ من العقاب الفوري غير القانوني، وأضافت أن "المسئولين الذين يتجاهلون سيادة القانون تجاهلًا صارخًا إنما يوجهون رسالة إلى الناس مفادها أنه يمكن التمييز ضد المسلمين والاعتداء عليهم".
وفي عصر اجتاحته وسائل التواصل الاجتماعي، أمكن رصد العديد من مقاطع الفيديو المصورة التي تُظهر العنف الذي ينتهجه أفراد الشرطة ضد مسلمين، فمَن منا لا يتذكر المشهد المروع في ٢٠٢١م الذي انتشر على منصات التواصل الاجتماعي لمصور صحفي وهو يقفز فوق جثة هامدة لرجل مسلم أمام حشد من الجنود؟! لم يكن لممثل الصحافة أن يفعل ذلك إلا لأنه أَمِنَ العقاب، ولأنه يوقن أن جهاز الأمن في هذا البلد معطّل لأسباب طائفية.
وفي العام ذاته، ظهَر مقطع فيديو آخر يُظهِر بائعًا مسلمًا يتعرض للصفع والركل واللكم من حشد من الهندوس في مدينة "إندور" بولاية "ماديا براديش" بوسط البلاد، وبعدها تقدم المواطن "تسليم علي" ببلاغ إلى الشرطة، لكن الغريب في الأمر هو القبض على "تسليم علي" في اليوم التالي بعد أن اتهمته ابنة أحد المشاركين في الاعتداء (وهي في الثالثة عشر من عمرها) بالتحرش بها.
ونفت عائلة "تسليم علي" وجيرانه هذا الاتهام نفيًا قاطعًا، وقالوا إنه من غير المعقول أن يقترف أب لخمسة أطفال فعلًا كهذا. ونقلت الصحف الهندية عن شهود عيان القول إن الضحية تعرض للاعتداء بسبب هويته الدينية، وبدا أن الاتهام بالتحرش الجنسي ضده كان مفبركًا.
وفي أكتوبر ٢٠٢٢م في منطقة "خيدا "بولاية "كوجرات"، اعتقلت الشرطة ١٣ شخصًا بزعم إلقائهم الحجارة على احتفالية رقص "غاربا" في مهرجان هندوسي، وظهر في الصور عنصر شرطة بملابس مدنية وهو يجلد علنًا رجالًا مسلمين بالعصى.
وفي فيديوهات عُرضت وأُشيد بها على بعض الشبكات الإخبارية التلفزيونية الموالية للحكومة، ظهر عدد من عناصر الشرطة بالزي الرسمي وهم يشاهدون حادثة الجلد ويضربون المتهمين بالعصي، فيما يهتف حشد من الرجال والنساء ويصفقون لهم، ولم تأمر الشرطة بالتحقيق في الأمر إلا بعد انتقادات واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي للفيديوهات، وبعد ذلك رفعت الشرطة قضية محاولة قتلٍ وأعمال شغب ضد ١٩ رجلًا مسلمًا متهمين بإلقاء الحجارة على احتفالية "غاربا" واحتجزت ٧ منهم.
وبعدها بيومين، ودون أي تصريح قانوني، هدمت السلطات منازل ٣ رجال منهم، بدعوى أنها شُيّدت بغير إذن قانوني، وحاولت السلطات تبرير الهدم بالادعاء بأن المباني كانت غير قانونية، لكن أفعالها وتصريحاتها أشارت إلى أن الهدم كان عقابًا جماعيًّا للمسلمين، مع تحميلهم مسئولية أعمال العنف في أثناء الاشتباكات الطائفية، وذلك حسب ما أوردته "هيومن رايتس ووتش".
ورغم تلك الانتهاكات الكثيرة، إلا أننا لسنا هنا بصدد عرض إحصاء لانتهاكات الشرطة الهندية السابقة في حق المسلمين هناك، ولكن تلك الأحداث المؤسفة التي كان موقف الشرطة الهندية فيها مخزيًا هي أحداث متكررة، ويبدو أنها ستتكرر لانتفاء النية في الإصلاح، الأمر الذي جعل وفدًا من اتحاد مسلمي "مهارشترا" يلتقي بمدير عام الشرطة؛ لعرض أحدث المستجدات عليه، وإبداء الاعتراضات على النهج الذي تنتهجه الشرطة ضد المسلمين تحديدًا.
ففي الأيام القليلة الماضية، وتحديدًا في منطقة "أكولا " التي تتبع ولاية "ماهاراشترا"، تعرضت سيدة مسلمة مُسنَّة للتحريق في الساعة الثانية ليلًا، وتستَّرت الشرطة على الجناة بدلًا من إلقاء القبض عليهم.
وفي حادثة أخرى وقعت ضد سائق "توكتوك" دخل في منطقة ذات أغلبية هندوسية، أقدم بعض أهل المنطقة على قتله ظنًّا منهم أنه مسلم، ليكتشفوا بعد ذلك أنه يدعى "فيلن جايكوار"؛ فما كان من الشرطة إلا أن ألقت القبض على ١٠٠ شاب مسلم مقابل ٦ فقط من غير المسلمين.
وفي منطقة "شجاون " في "أحمد نجر"، رفع متطرفون أصوات الأغاني بالتزامن مع رفع الآذان، ورغم محاولة شرح الأمر لهم، إلا أنهم لجأوا للعنف والشغب، وكان الضحايا معظمهم من المسلمين، ورغم ذلك ألقت الشرطة القبض على الشباب المسلمين.
لذلك، ومن خلال عمليات الرصد، يمكننا القول إن هذه ظواهر عنف يوميَّة يعانيها المسلمون في الهند. وتلك أوضاع قد يتحملها أي شخص طالما وجد من يستطيع اللجوء إليه ليحتمي به، أو ليستغيث به في ردع المعتدي حتى يأمن بعد ذلك من شرور هذا المعتدي، ولكن يبدو أن فئةً على الأراضي الهندية تستغل يد الشرطة لتضرب بها، ثم تحتمي بجدران مخافرها.
يبدو أن الشرطة الهندية أو بعض منتسبيها قد نسي أن أعمال التمييز الصغيرة يمكن أن تفضي في النهاية إلى أحداث تغير العالم، وقد يؤدي تجاهل تلك الإجراءات -في خضم حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي العالمي- إلى تداعيات وخيمة.
ونظرًا لطبيعة الهند، تلك الدولة التي شهدت منذ تقسيم شبه القارة الهندية عام ١٩٤٧م إلى دولتين (باكستان والهند) - وحتى الآن - اضطرابات وأحداث عنف دامية وقعت بين المسلمين والهندوس فيها، فالأحرى بالشرطة أن تتغير وفقًا لمجريات الأوضاع الداخلية بها؛ حتى تسيطر على الأوضاع وتعمل على استتباب الأمن فيها، وأن تعاقب المخطئ دون النظر إلى ديانته، فهو في النهاية مواطن هندي. ولن تنعم أي فئة بالسلام طالما ظل سلاحها الساهر على حمايتها يدعم الكره والعنف وينحاز لطائفة على حساب أخرى، فوظيفة الشرطة هي المساهمة في صون حريات المواطنين وفرض احترام حقوقهم وضمان أمنهم، ما يوجِب على عناصر الشرطة أن يكونوا بحق "صناع سلام" بين الأفراد والجماعات التي تعيش في الدولة نفسها. ولن يتأتى ذلك إلا بتحييد مثيري العنف وكفّ أذاهم، إذ أن وظيفة الشرطة هي أساسًا وظيفة "مضادة للعنف".