د. خالد محمد راتب
باحث بمجمع البحوث الإسلامية
الالتزام بالقيم الدينية والاجتماعية والحضارية
تمثّل القيم الدينية والاجتماعية والحضارية(1) اللبنة الأولى في البناء الديني والروحي والسلوكي، فلا يتصور إنسان أن تنشأ جماعة - بدائية أو متحضرة- وتتوافر عناصرها المادية، والزمانية، والمكانية، والعرقية وتتفاعل مع غيرها دون أن تتمتع بمنظومة قيمية تميزها وتؤهلها لتحقيق معاني الاستخلاف:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)
كما تظهر أهمية القيم الدينية والاجتماعية والحضارية في أثرها في تنظيم علاقات الإنسان التي تشمل علاقته بربه الكريم، وبنفسه التي بين جنبيه، وعلاقته بالآخرين المسلمين وغير المسلمين، وبالكون وما حوى من الحيوان والنبات، فهذه المخلوقات أمم أمثالنا كما قال تعالى:
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). (الأنعام: 38)
والدين الإسلامي هو الانطلاقة الحقيقية للقيم الدينية والحضارية؛ وذلك لأن القيم في الإسلام قيم ربانية جاءت في سياق منظومة متكاملة تبدأ من الله -تعالى- ثم يتلقاها أنبياؤه -عليهم السلام - ثم يعلمها المؤمنون ويعملون بها، وتشكل العقيدة والعبادة والأخلاق مظان هذه القيم وقوالبها التي تندرج فيها، فما هذه المنظومة إلا شجرة باسقة الأغصان يحتوي كل فرع منها على قيمة معينة يحتاجها المجتمع والكون الذي نعيش فيه، فنجد اليقين في العقيدة، والإخلاص في العبادة، والمروءة في الـمُعامَلة، وفي ظل هذه العناصر الثلاثة تنمو بذرة القيم، وتشتد، وتستوي على سُوقِها.
وإذا أمعنا النظر في سيرة النبيﷺ وشمائله لوجدنا أن التخلق بالقيم الإنسانية والحضارية كان من سجيته التي جبل عليها، فقد كان يتمتع بمكارم الأخلاق من الصفات العالية والقيم العظيمة في الجاهلية قبل الإسلام، ففي قصة الوحي أنه ﷺ: قال لخديجة بعد أن أخبرها برواية الملاك: «لقد خشيت على نفسي» . فقالت خديجة: «كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (2)، وما من خلق حسن حض عليه القرآن الكريم أو مكرمة ندب الناس إليها إلا وكان النبي ﷺ أول من امتثل وتحلّى بها؛ (فعن سعد بن هشام قال سألت عائشة فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: كان خلقه القرآن)(3).
فالقيم الدينية والاجتماعية والحضارية تعمل على وقاية الأفراد من الانحراف والانزلاق في الخطأ، فهي تعمل كعامل وقائي، كما أنها تعمل كعامل إنمائي لشخصية الفرد،حيث تمكنه من التكيف مع ضغوط الحياة ومصاعبها، ومواجهة الأزمات والتخفيف من وطأتها، ولأهمية البعد الاجتماعي وتأثيره على الإنسان، فقد جعل الشهود الجماعي للمؤمنين جزءًا من عقوبة الزنى في الشريعة الإسلامية، قال تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ).
(النور:2)
ومما يؤكد على أن العامل الاجتماعي المتمثّل في الحفاظ على القيم الدينية والاجتماعية والحضارية له دور كبير في وقاية المجتمعات من الفحشاء والانحرافات الجنسية التي تهدد أمن المجتمع -أن النبي ﷺ ركز عليه في توجيه الشاب الذي أتاه يشتكي ضعفه أمام غريزته الجنسية، فعن عامر الخبائري قال سمعت أبا أمامة يقول: «أتى رسول الله ﷺ غلام شاب فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنى، فصاح به الناس وقالوا: مه، فقال النبي ﷺ: ذروه، ادن، فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله ﷺ، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا. قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا. قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟ قال: لا. قال: فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟ قال: لا. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم. فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحبَّ لهم ما تحب لنفسك، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يطهر قلبي فوضع النبي - ﷺ- يده على صدره فقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء»(4).
ولو تأملنا في قصة يوسف -عليه السلام- لوجدنا أن وفاء يوسف –عليه السلام- ومراعاته حقوق الرجل الذي أحسن إليه، قد وقف حاجزا أمام الإغراء الذي تعرّض له من امرأة العزيز، فردّ عليها رافضًا ما دعته إليه، ومذكرًا لها بأنها هي زوجة الرجل الذي أحسن مثواه، وتولى رعايته منذ أن جاء به السيارة إليه، وذلك ما ورد في قوله – سبحانه وتعالى-:
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). ( يوسف: ٢٣ )
فقوله: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) يدل على أنّ ما يمنعه من تلبية طلبها هو احترامه لزوجها الذي أحسن إليه في إقامته معه، وكانوا يطلقون الرب على السيد والكبير، أي: إنّ بعلك ربي أحسن مثواي- منزلي- وأحسن إليَّ فلا أقابله بالفاحشة في أهله(5).
إذن فإن القيم الدينية والاجتماعية والحضارية التي كان يتبناها يوسف –عليه السلام- قد مثلت منعا من الاستجابة لامرأة العزيز عندما قامت بمراودته، وتلك القيم تمثلت فى الحفاظ على حقوق الآخرين، والكف عن خيانة وانتهاك حرماتهم في غيابهم، وحفظ الجميل الذي قُدِّم له من قبل.
ومما سبق تبين لنا أن البناء الاجتماعي، الذي يزود الفرد بسياج من القيم والمبادئ، يمثّل سورا قويّا أمام دوافع الإجرام والانحرافات الأخلاقية لدى الأفراد، فالعامل الاجتماعي يتمثل في تبني القيم الاجتماعية، التي تجعل الفرد يدرك حقوق الآخرين، ويسعى للمحافظة عليها. ومن القيم الدينية والاجتماعية والحضارية التي تسهم بشكل كبير في معالجة انحرافات المجتمع: التكافل الاجتماعي، فقضاء حوائج الناس كتزويج الشباب، والقضاء على البطالة واجب إسلامي، قال تعالى:
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج :24، 25)
وذلك يضع الأساس للتكافل الاجتماعي باعتباره حقا من حقوق الإنسان، ومن التطبيقات العملية للتكافل الاجتماعي في الإسلام: الزكاة، فالزكاة أحد أركان الإسلام، وهي أول صور التكافل الاجتماعي في الإسلام، وهي فريضة على كل مسلم، وهي حق مقدّر بتقدير الشارع الحكيم في المال بشروط معينة، وهي تدل على معنى أخص من الصدقة التي لا تتحدد بمال معين أو قدر بذاته، وقد أصلحت الزكاة ميزان تداول المال في المجتمعات الإنسانية، فقد كان تداوله في المجتمعات القديمة يجري على النقيض من العدل والتكافل، فقد كان الفقراء يكدحون؛ لكي تتراكم الثروة لدى الأغنياء وأصحاب السلطان، فعدل الإسلام الميزان، وجعل الغني يؤدي للمحتاج والفقير حقه فريضة من الله، ومصارف الزكاة تجمع أصحاب الحاجة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). 60 التوبة
وإلى جانب فريضة الزكاة في المال، شرعت زكاة الفطر؛ لتقيم التكافل بأجلى صوره في يوم العيد بعد صيام شهر رمضان، وهي تجب على من يملك قوت يومه وليلته، ومقدارها زهيد يستطيع كل من يؤديها أن يشعر بقدرته على الإسهام في التكافل الاجتماعي، وأداء هذا الحق لمن يستحقونه. ومن صور التكافل الاجتماعي أيضا: النفقات الواجبة، والكفارات، والنذور، والميراث، وأحكام الديات في القتل الخطأ. (6)
وإذا التزم المجتمع بهذه الصور التكافلية فإننا سنبني مجتمع التراحم والتعاون، ونقضي على الجرائم والانحرافات، ونحمي المجتمعات من أي انحراف، فالدين الإسلامي الحنيف ينطلق من قاعدة متميزة فعّالة تعمل على ترسيخ أركان المجتمع الإسلامي النقي الذي يسوده التكافل الاجتماعي حيث: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، مجتمعًا تسوده المودة والرحمة، «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى»متفق عليه (7).
كما أن مظاهر التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم تمتد لتشمل جميع جوانب الحياة المادية والمعنوية، فهناك تكافل وتضامن في البناء وتكافل في المحافظة على البقاء وصيانة الجماعة وتكافل في تسوية الخلاف الداخلي بين أفراد الأمة(8).
(1) القيم الحضارية هي جملة من المبادئ، والأخلاق، والأحكام، والتعاليم، والنظم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي تميز حضارة ما عن غيرها، وتبين قدرها، وتنظم علاقاتها، وتستمدّ من الأديان السماوية، أو المذاهب الوضعية، أو العرف والعادة، ويتواصى بها المجتمع، وتتوارثها الأجيال، وتجاهد في سبيلها، وهي تشكل الجانب المعنوي الذي يقابل الجانب المادي للحضارة المتمثل في العمران، والمعمار، والجانب التطبيقي للنظم الإدارية، والاقتصادية، والقضائية، والعسكرية، ولا تخلو حضارة إنسانية من قيم حضارية يعتز بها الناس، ويتميزون بها عمن سواهم، وقد تكون صحيحة أو فاسدة بناء على استمدادها من الشرع الصحيح، أو الدين المحرف، أو تحسين العقل وتقبيحه، وبهذا يتبين أن: (العنصر الأخلاقي الروحي للحضارة هو الذي تخلد به الحضارات، وتؤدي به رسالتها من إسعاد الإنسانية وإبعادها من المخاوف والآلام. والحضارات لا يقارن بينها بالمقياس المادي، ولا بالكمية، ولا بالترف المادي، وإنما يقارن بينها بالآثار التي تتركها في تاريخ الإنسانية). (القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية، د. محمد بشير محمد البشير ص4).
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها.
(3) أخرجه البخاري في الرقاق باب: صفة الجنة والنار .
(4) أخرجه أحمد (5/256، رقم 22265)، والطبراني (8/162، رقم 7679). قال الهيثمي (1/129) : رجاله رجال الصحيح.
(5) ابن كثير 4/ 379.
(6) فلسفة التكافل الاجتماعي في الإسلام، د. خالد راتب، تحت الطبع.
(7) التكافل الاجتماعي في الإسلام، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، ص7.
(8) الإسلام في حياة المسلم، محمد البهنسي: دار الفكر 1970.