04 سبتمبر, 2016

الشيخ جاد الحق على جاد الحق.. صورة مضيئة للأزهر وشيوخه

الشيخ جاد الحق على جاد الحق.. صورة مضيئة للأزهر وشيوخه

أ.د/ السيد محمد الديب

أستاذ الأدب والنقد

عاش الشيخ جاد الحق علي جاد الحق - رحمه الله- سنوات عمره المديدة على نمط واحد، وسمتٍ واضح، لم تغيره الأحداث، ولم تؤثر فيه المناصب؛ إذ كان متواضعًا صبورًا، وباحثًا مدققًا، وقاضيًا منصفًا، ومفتيًا واضحًا، ووزيرًا حاسمًا، وشيخًا عادلًا، لا يحب كثرة الكلام ولا الجدل ولا المراء؛ إذ كان معروفًا بقلة ألفاظه ورقة عباراته، التي تفصح عن شخصيته الثابتة القوية، التي لا تضعف، ولا تنهار أمام مغريات الدنيا وزخارف الحياة.

كان - رحمه الله- طوال مسيرته من (بَطْرة)إلى مشيخة الأزهر سمحًا عفيف اللسان يحنو على الضعيف، ويعطف على الصغير، ويوقر الكبير، ويعمل بِلا كللٍ، ويجتهد فيصيب، ويعلن رأيه بلا حرج، ويصمد في مواقف الحق، ويقاوم دعاوى التسيب، ويعتز بأزهريته، دون طغيان على العدالة؛ مما جعل الناس ينظرون إليه ويقبلون عليه، ويأخذون عنه، بما يبعدهم عن الشك ويقربهم من اليقين.

المولد والنشأة:

ولد الشيخ جاد الحق في الخامس من إبريل عام ألف وتسع مئة وسبعة عشر(1) في بيت ريفي بسيط بقرية بَطْرة- مركز طلخا- محافظة الدقهلية، وحفظ القرآن الكريم متميزًا على أقرانه بسرعة الحفظ، وجودة الاستيعاب بعناية الشيخ سيد البهنساوي الذي نهض بأداء رسالته مع هذا الصبي وغيره من أبناء القرية، كما علَّمه الكثيرَ من أصول الكتابة والقراءة وبعض مسائل الحساب، حتى أهَّله بكفاءة واقتدار للالتحاق بالأزهر الشريف، وقد تنامى بدنُه من نواتج الماء والتراب في قريته التي وُلد فيها وتطهَّر بها لسانه بهدى السماء إلى الأرض، وارتحل منها وغاب عنها، ثم عاد إليها ليدفن بين عظام أهله في مقابر الراحلين، وكانت نشأة جاد الحق نشأةً منضبطةً لا تخرج عن الإطار العام للحياة في القرية، وكان قلبه مشغولًا باستيعاب القرآن الكريم، ومعرفة أحكام تلاوته وتجويده، ومتأثرًا بوالده الذي اشتهر بحفظ الأمانات وفض النزاعات والتقريب بين الفرقاء، وبقيت هذه المرحلة من حياة الشيخ تاريخًا لا يبوح بالكثير من أسراره كعلاقاته بأقاربه وأصدقائه وزملائه في التعليم بالقرية، وسائر متطلبات الحياة.

التعليم بالأزهر:

خرج الشيخ من القرية إلى طنطا، تلك المدينة التي تتوسط الدلتا المصرية، ويفد إليها الكثيرون لزيارة الأولياء وتلقَّى العلم وأصول التصوف وقواعد القراءات، وكان اتجاه الشيخ إلى المعهد الأحمدي بها في عام ألف وتسع مئة وثلاثين، وكان عمره في حدود الثلاثة عشر عاماً، وكانت لديه عزيمة وإرادة أهَّلته لأن يتحمل مسئولية انتظامه في الدراسة، وتدبير أمور نفسه، ليستمر تحصيلُه للعلم وانتقاله من عام دراسي إلى آخر بتفوق واقتدار، إلى أن حصل عام ألف وتسع مئة وأربعة وثلاثين على الشهادة الابتدائية الأزهرية(2).

ولم يسلك الشيخ مسالك الكثيرين من العلماء، الذين أرَّخوا لحياتهم بالكتابة عن زمن طفولتهم، وطرائق حفظهم للقرآن الكريم، وانتقالهم من مرحلة دراسية إلى أخرى؛ ولذا بدت مسيرة الشيخ أمامنا لقطات ومواقف محددة، لم تتجل فيها الآلامُ والآمالُ لهذا الشيخ الوقور في طفولته وصباه.

وبقي في الدراسة بطنطا عند بدء التحاقه بالقسم الثانوي، ولكن لأسباب غير معروفة لنا انتقل خلال تلك المرحلة إلى معهد القاهرة الديني، القابع في منطقة الدراسة، قريبًا من الجامع الأزهر وأحياء القاهرة القديمة، إلى أن أتم الدراسة الثانوية، وحصل على شهادتها عام ألف وتسع مئة وتسعة وثلاثين، وكانت إقامته في غرفة صغيرة بالقرب من جامع ابن طولون، وكان التحاقه بكلية الشريعة استجابة لطموحه المبكر في العمل بالقضاء والفصل بين الفرقاء، والحسم لكثير من النزاعات، التي آلت إليه فيما بعد، سواء أكان ذلك في القضاء الشرعي أو المدني أو في دار الإفتاء.

وتخرج في كليته وكان من الخمسة الأوائل على دفعته، وذلك في عام ألف وتسع مئة وثلاثة وأربعين، ثم انتظم في الدراسة بقسم القضاء الشرعي للتخصص فيه، وتخرج منه وحصل على شهادة العالمية، مع إجازة القضاء الشرعي بعد عامين من الدراسة وذلك عام ألف وتسع مئة وخمسة وأربعين، وكان مع هؤلاء الخمسة الأوائل، الذين اصطحبهم شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي إلى التكريم في قصر رأس التين بالإسكندرية، حيث مُنح الشيخ جاد الحق شهادة تخرجه من الملك فاروق حسب مقتضى العرف آنذاك.

في ساحات المحاكم ودار الإفتاء:

انتقل الشيخ من قاعات الدرس إلى ساحات المحاكم، فعمل فور تخرجه موظفًا بالمحاكم الشرعية (أمينًا للسر) في يناير عام ألف وتسع مئة وستة وأربعين، وقوَّى ذلك نزعةُ الانضباط والالتزام لديه، فضلًا عن دقته وورعه، وإيمانه الذي ترسَّخ لديه منذ الطفولة المبكرة، وخلال دراسته بالأزهر.

وقد انتقل إلى العمل أمينًا للفتوى بدار الإفتاء في أغسطس عام ألف وتسع مئة وثلاثة وخمسين بدرجة موظف قضائي، منتقلًا مع الأمانة من جهة إلى أخرى، ولم تطل مدة عمله في هذه الوظيفة، التي تجلت فيها قدراته، فانتقل منها إلى العمل قاضيًا في المحاكم الشرعية عام ألف وتسع مئة وأربعة وخمسين، مقتربًا بذلك من تحقيق بعض طموحه الذي يسعى إليه بِلا كللٍ، وكان إلغاء القضاء الشرعي في أول يناير عام ألف وتسع مئة وستة وخمسين مسوغًا لانتقال الشيخ إلى العمل قاضيًا بالمحاكم المدنية، وظل في هذا السلك القضائي مترقيًا فيه حتى عُيّن رئيسًا للمحكمة في ديسمبر عام ألف وتسع مئة وواحد وسبعين، وتتوالى ترقياته من درجة إلى درجة؛ فقد انتقل إلى العمل مفتشًا قضائيًا بوزارة العدل في أكتوبر عام ألف وتسع مئة وأربعين وسبعين، ثم انتقل بعدها إلى العمل مفتشًا أول بالتفتيش القضائي، ثم عُيِّن بعد ذلك مستشارًا بمحاكم الاستئناف في مارس عام ألف وتسع مئة وستة وسبعين، ولم تسجل بحقه أية مخالفة خلال مدة عمله، خاصة القضاء المدني.

العمل مفتيًا ووزيرًا:

بدأت مرحلة جديدة من حياة الشيخ جاد الحق عندما عُين مفتيًا للديار المصرية في السادس والعشرين من أغسطس عام ألف وتسع مئة وثمانية وسبعين، وقد بذل خلال قيامه بهذه الوظيفة جهودًا بارزةً ومتميزةً، مع الحفاظ على دقته وحرصه ووقاره؛ مما كان له أكبر الأثر في الارتقاء بمنزلة هذه المؤسسة، وكان قد ضم إلى عضوية مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف عام ألف وتسع مئة وثمانين؛ إقرارًا بما للشيخ من جهود في الإفتاء والبحث العلمي الدقيق.

وانتقل -رحمه الله- في الرابع من يناير عام ألف وتسع مئة واثنين وثمانين إلى اعتلاء كرسي وزارة الأوقاف المصرية، ولم تطل مدة عمله في هذه الوزارة، مع ما يتحمله القائم بها من جهود ونشاطات ومهام كثيرة وخطيرة.

أما المحطة العملية الأخيرة في حياته فكانت في السابع عشر من مارس عام ألف وتسع مئة واثنين وثمانين، حيث عُين شيخًا للجامع الأزهر، وقد زادت مهامه باختياره رئيسًا للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وبقي على كرسي المشيخة متحملًا الأعباء الثقال مدة أربعة عشر عامًا.

وفاته:

لم يتوقف الشيخ جاد الحق عن العمل في خدمة الإسلام داخل مصر وخارجها، وفي غمرة هذا النشاط لحقت به أزمة قلبية حادة في فجر يوم الجمعة الخامس عشر من مارس عام ألف وتسع مئة وستة وتسعين فاضت بعدها روحه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية عن عمر يناهز التاسعة والسبعين عامًا، بعد حياة عامرة بالإيمان والورع والتقوى وحافلة بالعطاء، وخدمة الإسلام عاد بعدها ليستقر بدنًا طاهرًا في مقابر القرية.

وكان الشيخ -عليه رحمة الله- قليل الكلام عن تفصيلات حياته الاجتماعية، فلم يُعرف عنه سوى أنه تزوج من قريبةٍ له طالت معها مسيرة الحياة، وتوفي الشيخ وله ثلاثة من الأبناء، وكانوا يعيشون في حي المنيل بالقاهرة وكان أحدهم - وهو نجله أسامة- قد تحدث عن الدقائق الأخيرة من حياة والده (باللهجة العامية) قائلًا له - وقد تجاوز الساعة الثانية عشرة والنصف ليلًا-: «مش هتنام ولَّا إيه؟»، فضحك الشيخ وقال له: «وهو أنت جاي من السعودية من يومين علشان تخلينا ننام .... خلاص يا سيدي ننام»، ولمَّ الوالد أوراقه وقال لأسامة: «أعطني كوب ماء»، وذهب لإحضار كوب الماء فوجد والده يضع يده على صدره وقال: أشعر بألم فظيع بصدري واتصل أسامة على الفور بالطبيب، وقبل أن يرد فاضت روحه إلى بارئها - رحمه الله-(3) ، وقد شارك الآلاف في تشييع جنازته وأمَّهم للصلاة عليه فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمهما الله قدر إخلاصهما للدين والحياة.

وقد نال الشيخ جاد الحق - رحمه الله- التكريم -في مصر وخارجها- أثناء تولِّيه مشيخة الأزهر؛ ففي عام ألف وتسع مئة وثلاثة وثمانين، أقيم احتفال مهيب في عدة أيام بالعيد الألفي للأزهر مُنح بعده الشيخ وِشاح النيل، وتسلمه من الرئيس محمد حسني مبارك، كما ناله علماء آخرون من الأزهر الشريف.

وظفر الشيخ بوسام الكفاءة الفكرية والعلوم، وذلك من دولة المغرب الشقيقة عام ألف وتسع مئة وأربعة وثمانين، وتُوِّج في عام ألف وتسع مئة وخمسة وتسعين بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.

وأُعدَّت عنه أطروحة جامعية للعالِمية (الدكتوراه) بعنوان: (الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، ومنهجه في الفقه وقضايا العصر) بقسم الفقه العام في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بجامعة الأزهر في القاهرة.

ولقد انقضت عشرون عامًا على وفاة هذا الشيخ الجاد، دون أن ينال خلالها ما يستحقه من تكريم وتأريخ لحياته ودراسة لمؤلفاته، التي كان حريصًا فيها على الدقة، وإحكام العبارة التي احتمى بها، وأثبتها في أحكامه بالقضاء وآرائه في الإفتاء، وقراراته في وزارة الأوقاف، وشدة انضباطه وحسمه في فتاويه وقيادته وإمامته للجامع الأزهر الشريف.

 

(1) الموافق للثالث عشر من جمادى الآخرة عام 1335هـ.

(2) حسب التسمية الحادثة آنذاك، والتي غُيرت فيما بعد إلى الإعدادية الأزهرية.

(3) مجلة التصوف الإسلامي عدد ذي القعدة 1416هـ (إبريل 1996م) صـ5.

قراءة (8352)/تعليقات (0)

كلمات دالة: مختارات
12345الأخير