20 سبتمبر, 2016

أسرار التعبير بالفرائد القرآنية في قصة موسى عليه السلام

أسرار التعبير بالفرائد القرآنية في قصة موسى عليه السلام

أ.د. عبدالله سرحان

الفريدة الثالثة: ( تَذُودَانِ )، جاءت في قوله تعالى:

(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)

 (القصص:23)

علمنا من الفريدة السابقة أن موسى عليه السلام قتل القبطـي خطأً ودون قصد، وتحكي الآيات التالية أن موسى فرّ من مصر خوفًا من بطش فرعون، وانتهى به المطاف- بعد رحلة مضنية- إلى مَدْين، وحط رحاله ليستريح عند بئر ماء، فرأى ما حكته الآية الكريمة التي وردت الفريدة في سياقها. 

وعن معنى هذه الفريدة يقـول السمين الحلبي: « قوله تعالى: (تَذُودَانِ)، أي: تطْردان غنمهما عن غنم الناس لئلا تختلط بها… وقيل: يَكُفان غنمهما حتى يفرغ الحوض من الوراد، والذود من الإبل: ما بين الاثنين إلى التسع للإناث خاصة دون الذكور»(1).

ومن المفسرين يقول أبو عبيـدة: « تذودان: مجازه تمنعان وتردان وتطردان، قال جرير:

وقد سلبت عصاك بنو تميم

فما تدري بأي عصا تذود»(2)

ويقول الشيخ صديق خان: «( تَذُودَانِ) أي تَحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس، ويخلى بينهما وبين الماء، وبه قال ابن عباس، وورد (الذود) بمعنى الطرد، أي تطردان، وقيل: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس، وقيل: تمنعان أغنامهما عن أن تَنِدَّ وتذهب،  والأول أولى لقوله (قال) موسى للمرأتين: (مَا خَطْبُكُمَا)؟ أي: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس»(3).

وإذا كان الذود له تلك المعاني السابقة، فلم فضل الذود عليها ولم يذكر واحدا منها؟.

أرى والله أعلم أن لذلك حِكَمًا جليلة منها:

- أن في الذود معنى زائدًا عن تلك الألفاظ، وفيه خصوصية ليست فيهـا، وهي أن( الذود) في أصل اللغة ـ كما يقول ابن فارس ـ له دلالتان: تنحية الشيء عن الشيء، وجماعة من الإبل، وكلا المعنيين لا يتصادمان مع سياق الكلام، لأن المرأة كانت تنحي ما معها من أنعام، وتبعدها عن البئر؛ حتى ينتهي الرِّعاء من وردهم، وهذا الذي تنحيه كانت جماعة من الإبل، وهذان المعنيان اللذان تحتملهما الفريدة لا يفهمان ألبتة من غيرها.          

فكانت الفريدة أدق وأقوى في إيصال المراد.

وهذا الذي ذهبنا إليه لا يتناقض مع حذف المفعول؛ لأن حذف مفعول الذود والسقي كان للثناء على موسى عليه السلام، وأنه سقى لهما بصرف النظر عن نوع المسقي إبلًا كان أو شاء، ولكن الذود كما سبق يرجح أن المسقي كان إبلًا، ولو قلنا: إن المسقي يجوز أن يكون غنمًا أو نَعَمًا فهذه اللفظة أيضًا أوفق بالمعنى؛ لأنها تحمل في طياتها كل المعاني التي فسرها بها اللغويون، فهي أخصر وأوجز وأكثر غنى وثراء.

 - تشير الفريدة إلى أن تلك المرأتين قامتا بعمل فـريد عجيب لم يكن معهودا آنذاك؛ لأنهما ـ كما هو واضح من السياق ـ كانتا الوحيدتين من بين جماعة الرجال والنساء، بوجه عام لا تتحمل عبء مثل هذه الأعمال، ومن ثم لفـت ذلك نظر موسى عليه السلام، وسألهما عن شأنهما، وما الذي حـدا بهما أن يفعلا ما فعلا على غير العادة في أمثالهما.

ـ كما تومئ الفريدة إلى موقف الرعاة الغريب العجيب الذين فقدوا الشهامة والمروءة والإنسانية الحقـة؛ لأنهم أبـوا أن يسقـوا للمرأتين قبلهم، كما هو واجب المروءة: «فالأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة أن تسقي المرأتان، وتصدرا بأغنامهما أولًا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما»(4).

ولكن هذا لم يحدث مما دفع بموسى الهارب المطارد المكدود أن يستنكر هذا السلوك العجيب الغريب من هؤلاء الرجال، ويتقدم ليسأل المرأتين عن سر وجودهما وسط هؤلاء الذين فقدوا النخوة والمروءة. 

ـ هذه حالة فريدة لا نظير لها فيما حكاه القرآن عن حواء، فهي لم تَرِد مطلقًا في غير تلك القصة، وهي حالة فريدة أيضًا فـي تاريخ الأنبياء ترمز إلى قوة موسى -عليه السلام- وأمانته وشهامة نفسه. 

الفريدة الرابعة: ( جَذْوَةٍ )

وردت في قوله تعالى:

(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)

 (القصص:29).

يحكي سياق تلك الفريدة أن موسى -عليه السلام- بعدما قضى الأجل الذي اتفق عليه مع شعيب، أخذ أهله وقفل عائدا إلى مصر، وفي طور سيناء، وفي ليلة مظلمة شديـدة البرد حدثت له عجائـب وغرائـب ومعجزات كثيرة أشارت إليها ثمانية فرائد(5)

 سنذكرها تباعًا

وأولها(جَذْوَةٍ)، والجـذوة ـ كما ذكـر اللغويون ـ هي: « القطعة من الحطب بعد التهاب النار فيها، جمعها جُذىً نحو غرفة وغرف، وجِذىً نحو كِسْرة وكسر»(6).

وفي مختار الصحاح قال: « قال مجاهد في قوله تعالى:

 ( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ )، أي: قطعة مـن الجمر، قال: وهي بلغة جميـع العرب، وقال أبو عبيدة: الجذوة القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن»(7).

وهذا المعنى الأخير قد يكون مقبولًا بدليل تعقيب الجذوة بقوله:  ( مِنَ النَّارِ)، وهو ما أشار إليه الألوسي قائلًا: « ( أَوْ جَـذْوَةٍ )، أي: عُود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله:

وألقى على قيس من النار جذوة

شديدًا عليها حرها والتهابها

أو لم تكن كما في قوله:

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها

جزل الجذا غير خوار ولا دعر

ولذا بُيِّنَت - كما قال بعض المحققين- بقوله تعالى: ( مِنَ النَّارِ ) وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النار بها استحالت نارًا»(8).

وفي إيثار التعبير بتلك الفريدة إشارات عديدة منها:

ـ أن تلك الفريدة أوجز مما فسرت به على الرأي المختار؛ لأنها ـ كما هو واضح بجلاء ـ أوجز من قولنا: أو أجد قطعة غليظة من الخشب تشتعل فيها النار.

ـ في الفريدة إيماء إلى أن الجو في تلك الليلة كان شديد البرودة، وأنهما كانا في أشد الحاجة إلى نار يستدفئان بها، ومن ثَمَّ عبر بالجذوة لأن النار المشتعلة في الجذوة تستمر فترة طويلة تكفي طوال الليل.

ولو عبر بلفظة أخرى لما فُهِم مدى المعاناة التي كانوا يعانونها من جراء هذا الجو القارص.

فالتعبير بتلك الفريدة يتناسب مع الحالة التي كانوا عليها أتم تناسب، ويتلاءم مع المناخ القارص الزمهرير في صحراء سيناء في تلك الليالي الشاتية، والله أعلم.

ـ يكشف سياق تلك الفريدة عن أن موسى -عليه السلام- حين رأى النار من بعيد، انتابته أكثر من خاطرة، فهو قد ضل الطريق، والجو بارد، فحاجته إذن من تلك النار إلى شيئين: أن يجد عندها هاديًا يدله على الطريق الصحيح إلى مصر ـ لأنه لا توجد نار دون من يشعلها غالبًا ـ وقد أشير إلى ذلـك في سورة النمل بقوله:

(فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

(النمل:7)

على سبيل اليقين، ولكنه عاود التفكير علَّ النار إذا ذهب إليها لا يجد عندها أحدًا فقال هنا على سبيل الرجاء: ( لَعَلِّي آتِيـكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ) فاحتاط وعبر بقوله: ( لَعَلِّي) ليكون أكثر دقة، وفي سورة طه عبر بقوله: ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)؛ لأنه قد يجد عند النار مَخْبرًا ما، ولكنه لا يعرف الطريق فأتى بتلك العبارة؛ لأنه يتمنى أن يجد من يهديه.

كل هذه الخواطر عبرت عنها تلك الأساليب الواردة في أكثر من سورة، ولكل عبارة لقطة ولمحة لا توجد في غيرها، والحال كان كذلك في طلب الحصول على ما يُدفئهم فعندما لمح النار من بُعدٍ؛ فكر أن تلك النار إذا أتى إليها سيجدها مشتعلة، وعندئذ سيحصل منها على شعلة قوية يستدفئون بها، وهذا ما ذُكر في قوله تعالى في سورة النمل:

(  فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

 (النمل: 7)

علـى سبيل اليقين، ولكنه أيضًا راجع نفسه في هذا الأمر، واحتاط فعاد يقول على سبيل الرجاء:

(إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)

(طـه:10)

ثم عاود التفكير قائلًا قد يجد النار ـ إذا ذهب إليها ـ قد خمد لهبها، وهمد أوارها فعندئذ لن يحصل إلا على جمرة من النار تكفي ليلتهم، وهو المعبر عنه هنا بقوله:

( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) أي: بجمرة ملتهبة، ويلاحظ أنه لم يأت بصيغة أخرى في الحديث عن هذه الحالة ـ مثلما سبق ـ لأن الجمرة الملتهبة لا احتمالات فيها.

فجاءت العبارة عن ذلك وحيدة فريدة في سورة القصص تحكي تفرد هذه الحالة في نفس موسى -عليه السلام-، وأنه لم يعاود  -والله أعلم- التفكير فيها كما عاوده فيما مضى، وقد جاءت كل عبارة كاشفة عما كان يجول في نفسه عليه السلام من مختلف الاحتمالات، ولما كانت الجذوة ليس فيها احتمال - كما سبق - لم تتكرر في أي سورة، ألا ما أحكم هذا القرآن وأجله وأعظمه؛ إنه تنزيل من حكيم حميد.

ـ في الفريدة إشارة إلى أن تلك النار التي تراءت لموسى -عليه السلام- كانت نارًا عجيبة لم ير الكون مثيلها مذ كان وحتى يوم القيامة، فهي ليست ككل النيران، بدليل أنها وردت نكرة في كل مواضعها في تلك القصة، مما يشي بأنها نار عجيبة فريدة في نوعها غريبة في جنسها ليست من جنس النيران المعتادة المتعارف عليها، بل كانت نارًا مصدرها المَلأُ الأعلى؛ فأوحت الفريدة -( جَذْوَة )- بذلك كله، والله أعلم.

 

 

 

 

عمدة الحفاظ 2/52 ، ومفردات الراغب 185 ، وبصائر ذوي التمييز 3/27 ، ومقاييس اللغة لابن فارس 2/365 .

مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/101 .

فتح البيان 7/140، ومفاتيح الغيب 23/2665 ، وتفسير القرطبي 13/268 ، والألوسي 13/672 .

قصص الرحمن في ظلال القرآن 3/55 ، وانظر في ظلال القرآن 5/ 2685 .

تحدثنا عن بعض هذه الفرائد عرضا في بحث (مصر في القرآن) ص 417 : 428 .

عمدة الحفاظ 1/362 ، ومفردات الراغب 88 ، والمصباح المنير 37 .

مختار الصحاح 42 ، ولسان العرب ( جذا ) .

تفسير الألوسي13/701 ، والكشاف3/174، وتفسير القرطبي 13/281 ، والتحرير والتنوير20/111 .

قراءة (5438)/تعليقات (0)

كلمات دالة: