أ.د/ محمد المختار المهدي
الجزء العاشر من سورة الأنفال
فقد ختم الله -عز وجل- الجزء التاسع من كتابه الكريم بطمأنة المؤمنين بقوله سبحانه وتعالى:
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(الأنفال: 63)
ومع ذلك فتح الله لهم باب التوبة فـقال تعالى:
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)
(الأنفال: 38)
وسينصر الله أهل الحق؛ لأنهم لا يريدون إلا أن يكون الدين لله وحده بعيدًا عن ضغوط التقاليد والأساطير.
تقسيم الغنائم:
يبدأ هذا الجزء ببيان تقسيم الغنائم كما أراد الله - عز وجل -:
(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ)
(الأنفال: 14)
ثم بتذكير المسلمين بفضل الله -عز وجل- عليهم يوم التقى الجمعان في بدر؛ حيث أرى الله -عز وجل- المؤمنين أن عدوهم قليل، وأرى أعداءهم أنهم أقلية، كل ذلك ليتشجع كل فريق على لقاء الآخر (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)
(الأنفال: 44)
ثم أمر الله -عز وجل- عباده المؤمنين بأن يثبتوا، وأن يديموا ذكر الله وطاعته، وأن يتركوا التنازع والخلاف، فهو سبيل الفشل والدمار، وأن يلزموا الصبر وإخلاص النية فإنهم لم يخرجوا
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)
(الأنفال: 74)
وليذكروا مواقف أعدائهم المغرورين بقوتهم وبمن كان معهم من المنافقين، وبما حاق بهم كما حاق بآل فرعون من قبل، وليذكروا عداء شر دواب الأرض وهم اليهود الذين:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)
(الأنفال: 65)
وأنهم سيدعون أنهم سبقوا المؤمنين في العتاد والقوة، ولكن على المؤمنين أن يعدوا لهم ما استطاعوا، وسيكمل الله -عز وجل- للمؤمنين ما لم يستطيعوا، ليرهبوا به عدو الله ومن يسانده، فإن ضعفوا ومالوا إلى السلم وما زال المسلمون أقوياء فليقبلوا المسالمة، ولا يخشوا خداعهم، فالله معهم، بشرط واحد أن تبقى وحدتهم وتآلف قلوبهم وارتفاع روحهم المعنوية، بحيث إذا لقي أحدهم عشرة من أعدائه كان قادرًا على هزيمتهم بفضل الله، وقد حقق الله للمؤمنين ما وعد، وأُسر من المشركين سبعون، ورضي النبي ﷺ بفدائهم طمعًا في إيمانهم، مع أنهم لا يستحقون العفو بعد كل هذه الجرائم، وفرح المؤمنون بنصر الله، واتخذ المهاجرون الوحدة بينهم وبين الأنصار أساسًا، وعرفوا عدوهم من صديقهم، وانضم إليهم من هاجر متأخرًا، وقويت شوكة الإسلام.
سورة التوبة
بيان حقيقة المشركين:
تبدأ ببراءة الله -عز وجل- ورسوله ممن نقض العهد من المشركين، وأمهلهم رب العزة أربعة أشهر، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وإلا قتلوا، وإن استجاروا بالمؤمنين حتى يسمعوا كلام الله، أجارهم المؤمنون، لأنهم لا يريدون النقمة من أحد، إن طبيعة المؤمنين أن يستقيموا مع المستقيم، ويسالموا مع المسالم، أما من يخون العهد ويضمر الشر فالسلام معه استسلام وعجز، فهم
(بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)
(التوبة: 01)
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)
(التوبة: 21)
ولا ينبغي للمؤمنين أن يخشوهم
(انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
(التوبة: 41)
وهذا هو الامتحان الحقيقي للإيمان، إن المشركين يحْتَمُون بأنهم يعمرون المسجد الحرام، لكن العمار الحقيقيين هم المؤمنون برب المسجد الحرام، هم المجاهدون في سبيل الله، المتبرئون من الشرك وأهله ومن زينة الدنيا وزخارفها ومن عصبيات النسب والقرابة ومن الاعتزاز بالكثرة، فما نفعت الكثرة يوم حنين، فقد ضاقت الأرض على من قال: لن نغلب اليوم عن قلة، (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)
(التوبة: 62)
وعلى المؤمنين أن يطهروا المسجد الحرام من رجس المشركين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)
(التوبة: 28)
وألا يخافوا من الفقر لقلة زوار الحرم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(التوبة: 28)
وأن يقاتلوا (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)
(التوبة: 29)
افتراءات الكافرين على الله:
فقد ادعى اليهود أن عزيرًا ابن الله، وادعى النصارى أن المسيح ابن الله، و(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
(التوبة: 31)
يحرمون لهم ويحلون لهم دون سند من أوامر الله، وما أمرهم موسى وعيسى إلا بتوحيد الله وهم
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
(التوبة: 32، 33)
ثم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
(التوبة: 34)
ويحرصون على أن يكنزوا الذهب والفضة، وستكوى (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)
(التوبة: 35)
وقد غير المشركون في (مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)
التي هي (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)
(التوبة: 36)
ولكنهم غيروا وبدلوا فجعلوا
(يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً)
(التوبة: 37)
وإذن فقد ضل كل من المشركين وأهل الكتاب، واعتدوا على المسلمين، فلماذا لا يستنفر المسلمون طاقاتهم في درء أخطارهم؟
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)
(التوبة: 38)
لقد نصر الله نبيه ولم يكن معه سوى صاحبه أبو بكر في الغار، ومع ذلك نصره الله بسبب أنه استحضر معية الله، وأنزل
(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
(التوبة: 40)
لم يرها أحد، فـ (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
(التوبة: 41)
ولا تسمعوا للمنافقين الذين يفضلون القعود، فإنهم (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)
(التوبة: 47)
وإن تصبكم (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ)
(التوبة: 50)
هل تنتظرون من جهادكم (قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)
(التوبة: 52)
إما النصر، وإما الشهادة؟ أما المنافقون فعلامتهم أنهم (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)
(التوبة: 54)
ومنهم من يلمز النبي في توزيع الزكاة، مع أن الله -عز وجل- حدد مصارفها في ثمانية:
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60)
ومنهم من يؤذي النبي، ويحلفون بالله إنهم مع الإسلام ليرضوا المؤمنين، ويحذرون أن تنزل سورة تفضحهم، ويعتذرون بأنهم يخوضون ويلعبون، وهم متعاونون على الإثم والعدوان، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فلهم جهنم وبئس المصير، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(التوبة: 71)
ولهم جنات النعيم، وليس على المحسنين سبيل إذا نصحوا لله ولرسوله، ولم يجدوا ما ينفقون، وسيرحمهم الله، لأنهم بذلوا ما يستطيعون.