عقد الجامع الأزهر، اليوم الأربعاء، اللقاء الأسبوعي لملتقى السيرة النبوية، تحت عنوان: "منهج النبي ﷺ في التعامل مع الشدائد"، بحضور: أ.د/ السيد بلاط، رئيس قسم الحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر سابقًا، وأ.د/ نادي عبد الله، وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية لشئون الدراسات العليا، وأدار الملتقى الأستاذ/ محمد جمعة، المذيع بإذاعة القرآن الكريم.
في مستهل الملتقى، قال الدكتور/ السيد بلاط: إن الحياة الدنيا هي دار ابتلاء واختبار، وأن خلق الإنسان فيها يرتبط بهذه الحكمة؛ قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ}، مبينًا أن علة هذا الاختبار مذكورة في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، مبينًا أن شدة الابتلاء ترتبط بعظمة المرتبة؛ لهذا عندما سُئل رسول الله ﷺ: "أي الناسِ أشد بلاء؟ قال ﷺ: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الناس على قَدْر دِينِهم"، ولأن رسول الله ﷺ هو خير الأنبياء؛ فقد كان أكثرهم ابتلاءً، وأعظمهم صبرًا، وشملت محنته سجلًّا حافلًا من التضحيات؛ حيث تعرض ﷺ للتكذيب والاتهامات الباطلة كالجنون والشِّعْر والكهانة، كما تعرض أيضًا لـلإيذاء الجسدي والمقاطعة، ومنها: وضع الأذى في طريقه، والحصار القاسي في شعب أبي طالب لثلاث سنوات متتالية؛ ما أودى بحياة بعض الصحابة بسبب الجوع، وتعرض أيضًا لـلابتلاء الوجداني، كتلك الفاجعة المتمثلة في عام الحزن، بوفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة رضي الله عنها، اللذين كانا أكبر سند له.
وأضاف الدكتور/ السيد بلاط، أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل شملت محنته ﷺ إصابته في رأسه يوم "أُحُد"، واستشهاد عمه حمزة في المعركة ذاتها، واتهامه بعدم العدل في قسمة الغنائم، إضافة إلى فِقدانه ﷺ لجميع أولاده الذكور وثلاث من بناته في حياته ﷺ، ورغم كل هذه الشدائد، كان تعامله ﷺ مثالًا للرضا والصبر واللجوء إلى الله؛ ففي رحلة الطائف حيث قوبل ﷺ بالاستهزاء وشج وجهه الشريف ﷺ، لجأ إلى ربه داعيًا: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ».
من جانبه، أوضح فضيلة الدكتور/ نادي عبد الله، أن صبر النبي ﷺ كان منهجًا عمليًّا ودروسًا وعِبرًا، غايتها بناء الأمة، وتأصيل الثقة فيما عند الله في النفوس، ونتيجة لهذا التأصيل النبوي؛ كان الصحابة يتميزون بالثبات في أحلك الظروف رغم قلة عدتهم وعتادهم؛ لأن قلوبهم كانت موقنة بوعد الله ووعيده، عندما قال رجل: "رأيت الجنة والنار حقيقة"، وحين سئل كيف؟ أجاب: "إني رأيتهما بعين رسول الله ﷺ "، وهذا دليل على الثقة المطلقة واليقين الراسخ فيما نقله الرسول الكريم ﷺ عن الغيب والحساب، وهو عين المنهج الذي ربى عليه النبي ﷺ أصحابه أمة عظيمة، لا تستمد قوتها من الأرض، بل من ثبات قلوبها على الحق.
وبيَّن الدكتور/ نادي عبد الله، أن الأساس الذي تقوم عليه هذه الثقة، هو التربية على معرفة الله والقرب منه؛ بما يضمن للإنسان معية الله المطلقة وقت الشدة، ولأهمية هذا المنهج في بناء النفس؛ جاء التوجيه النبوي المباشر في قوله ﷺ: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ"، في تأكيد على أن الحفظ الإلهي في الضيق مشروط بعلاقة العبد مع ربه في السعة، وفي رواية الترمذي قال النبي ﷺ: "تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"، وهو ما يُعدُّ منهجًا استباقيًّا في التعامل مع الشدائد، فهو يُعلِّم الأمة أن النجاة من الأزمات والشدائد تصنع قبل وقوعها، من خلال استثمار أوقات القوة والعافية بالالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، والاعتراف الدائم بفضله، وأن يجعل الإنسان طاعته لربه وقت السعة رصيدًا في أوقات الضيق والابتلاء؛ ليجد عون الله ونصره.
يُذكر أن ملتقى "السيرة النبوية" الأسبوعي يُعقد الأربعاء من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف؛ بهدف استعراض حياة النبي محمد ﷺ، وإلقاء الضوء على المعالم الشريفة في هذه السيرة العطرة، وبيان كيفية نشأته، وكيف كان يتعامل مع الناس، وكيف كان يدبر شئون الأمة؛ للوقوف على هذه المعاني الشريفة؛ لنستفيد بها في حياتنا.