التمكين للأعداء خيانة عظمى.. وسلوك يتنافى مع فريضة الاعتصام التي أمر بها ديننا
عقد الجامع الأزهر، اليوم الثلاثاء، اللقاء الأسبوعي لملتقى الأزهر للقضايا المعاصرة، تحت عنوان: "ثقافة الاعتصام وأثرها في المجتمع"، وذلك بحضور: أ.د/ محمد عبد المالك، نائب رئيس جامعة الأزهر، وأ.د/ عبد الفتاح خضر، عميد كلية القرآن الكريم السابق، وأستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر، وأدار الملتقى الأستاذ/ أبو بكر عبد المعطي.
وخلال اللقاء، قال الدكتور/ محمد عبد المالك: إن الاعتصام هو طريق النجاة ومنهج الأمان الشامل؛ وذلك لما يحمله من معانٍ عميقة تشمل: الاستعانة، والتوكل، والتعلق، والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، والتي تمثل جميعها أسبابًا قوية للحماية والطمأنينة، وهذا المصطلح قد ورد بمشتقاته المختلفة في القرآن الكريم؛ للدلالة على مدلولات متنوعة، من أبرز هذه المعاني هو المنع والحماية، كما في قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ}؛ أي: لا مانع ولا حائل يصد قضاء الله إلا رحمته، ويأتي كذلك بمعنى الحفظ والعناية الإلهية، كما في الخطاب الموجه للنبي محمد ﷺ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، مشيرًا إلى أن الله سبحانه وتعالى يحفظ رسوله ويحميه من كيد الأعداء، مع الإشارة إلى أن أي أذى يَسِيرٍ لحق بالرسول كان لحكمة بالغة، ولتعليم دروس بليغة تستفيد منها الأمة على مر العصور.
وبَيَّنَ الدكتور/ محمد عبد المالك، أن المعنى الأعمق للاعتصام هو الاستمساك القوي بحبل الله المتين؛ حيث يوجه القرآن الكريم المؤمنين إلى هذا المسلك الإيماني في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ}، فالاعتصام هنا يعني التمسك بكتابه وسُنَّة نبيه ﷺ، والاجتماع عليهما، وهكذا يتضح أن مفهوم الاعتصام يمثل ركيزة إيمانية وسلوكية متكاملة، تربط الفرد بخالقه، وتوفر له الملاذ والأمان في الدنيا والآخرة.
وأوضح الدكتور/ محمد عبد المالك، أن من معاني الاعتصام هو العصمة، التي يمنحها الله سبحانه وتعالى لمن يختارهم، مثل: الأنبياء عليهم السلام، الذين طهرهم المولى سبحانه وتعالى، وعصمهم من الوقوع في الشهوات، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}. هذه الآية دليل على أن النبوة اصطفاء وعصمة، مبينًا أن هناك فرقًا بين العصمة والاعتصام؛ فالعصمة تمنح من الله سبحانه وتعالى لمن يشاء. أما الاعتصام، فهو فعل يقوم به العبد، ويتطلب عزيمة وجهدًا، وأشار إلى أن العصمة تشمل الملائكة أيضًا، فهم مخلوقون من نور، وطاعتهم للمولى سبحانه وتعالى لا تكلفهم مشقة؛ إذ هم على حال الطاعة دائمًا: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. كما أن كتاب الله تعالى معصوم من الزيادة والنقصان؛ فلا تمتد إليه يد الإثم منذ أنزله الله سبحانه وتعالى.
وشدَّد نائب رئيس جامعة الأزهر، على أنه يجب على المسلمين إذا أرادوا أن يعتصموا بالله سبحانه وتعالى، أن يعودوا إلى القرآن الكريم؛ لأن القرآن هو الذي يجمع ولا يفرق، وهو الكتاب الذي وحَّد الله سبحانه وتعالى به الصفوف المتنافرة، والقبائل المتناحرة، والقلوب المختلفة. وبفضل الاعتصام به، تحققت للمسلمين السيادة والريادة. وعلى أمة الإسلام لكي تستعيد مكانتها وريادتها؛ أن تعود إلى القرآن الكريم مصدر عزها واعتصامها.
من جانبه، أكد الدكتور/ عبد الفتاح خضر، على أن من يُسهِّل لأعداء الأمة التمكن والنيل من بلاد المسلمين، يُعدُّ بمثابة خيانة عظمى؛ قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ولاوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، وهذه الأفعال تُحدث شروخًا في الصف، وتُفقِد الثقة، كما أنها لا تستهدف الجانب المادي فحسب، بل تسعى لضرب العماد الفكري للمجتمع وهم العلماء؛ لذا فإن اليقظة والوحدة هما السبيل الوحيد لصد الأخطار التي تحيق بالأمة؛ لأن حماية الأوطان والمجتمعات فريضة، ولا يجب أن تضيع هذه الفريضة؛ لأن بضياعها تضيع الأمة، مشيرًا إلى ضرورة الابتعاد عن الأنانية؛ لهذا جاءت الألفاظ الدالة على الاعتصام والوحدة في القرآن الكريم بواو الجماعة، في خطاب قرآني يحثنا على التجمع والوحدة.
وأضاف أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر، أن نواقض الاعتصام بحبل الله لا تقتصر على الخيانة الكبرى وحسب، بل تتسع لتشمل الأمراض المجتمعية الباطنية كالغيبة، والنميمة، والحسد، والحقد، والكراهية؛ حيث تحدث هذه الصفات انقسامات بين أفراد المجتمع، بحيث تحقق للأعداء مرادهم، وتُمكِّنهم من النيل من الأمة. والاعتصام الحقيقي يمثل درع الأمة ومنطلق قوتها؛ لهذا عندما هاجر النبي ﷺ للمدينة كانت أولى خطواته هي جمع الصف والمؤاخاة بين الأوس والخزرج والمهاجرين والأنصار؛ ليصبح المجتمع متماسكًا، وقويًّا، ومحصنًا، وقادرًا على مواجهة تحدياته وأعدائه.