ثانيا: عن الجديد الذي ذكره القرآن الكريم في مجال الأخبار:
رددنا في المقال السابق على دعوى المستشرقين بأن القرآن الكريم لا علاقة له بوحي السماء، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو مؤلفه، واستمد معلوماته من الكتاب المقدس قبله، ولم يأت بجديد في أي مجال يخالف به ما كان في كتب السابقين قبله، وتعقبنا هذه الافتراءات، ودللنا على أن القرآن الكريم وحي سماوي أتى بمعلومات أكمل، وأعلى، وأوسع مما ذُكر في الكتب المقدسة قبله، ودللنا على ذلك بالجديد الذي حمله القرآن الكريم:
أ.د/ عبد المنعم فؤاد
عميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين
أولا: في مجال الأحكام، ومثلنا بما جاء في مسائل الربا، والمرأة، وفي قضايا الحرب عند اليهود، وغيرهم.
وفي هذا المقال- بعون منه سبحانه - نبين الأمر الثاني، والمتعلق بالجديد الذي حمله القرآن للبشرية في مجال الأخبار.
فالأمر في هذا الشأن واضح ، وغير خفي، فالقرآن الكريم أتى بجديد في دنيا الأخبار لم يكن للنبي ﷺ ولا لقومه علم بها، بل لم تذكره حتى كتب اليهود، والنصارى، ولم تشر إليه من قريب، ولا بعيد، مما يدل على أن مادة الخبر غير موجودة في الكتاب المقدس السابق كما يزعم المستشرقون.
وعن هذه الأخبار نذكر أمثلة منها:
ما ذكر عن تحريف اليهود لما نزل على موسى \ من تشريع، وقد كان يُظن أنهم لم يحرّفوا، ولم يبدّلوا في شيء ، إلا أن القرآن الكريم فضحهم، وكشف عوراتهم الفكرية على العالم أجمع، وفي كل زمان، ومكان، قال تبارك وتعالى :
(وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً)
(المائدة: 41)
يقول ابن كثير - رحمه الله - : «نزلت في اليهوديّين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بين أيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مئة جلدة، والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين؛ فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا نتحاكم إليه - أي- محمد ﷺ فإن حَكَم بالجلد، والتحميم خذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه»(1)
ويفهم من ذلك أنهم لا يريدون أن يُقروا بنبوءة محمد ﷺ إلا إذا وافق حكمه هواهم في التحريف، والتبديل، لكن النبي ﷺ لم يقبل هذا الأمر، وجعلهم يأتون بالتوراة ليقرءوها أمامه، ويكشف باطلهم، ويثبت أن الرجم ثابت فيها، وما زعموه من جلد للمحصن أمر دخيل، ولم تقل به التوراة، وقد فعلوا وتبين ثبوته.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في توضيح ذلك(2)
وغني عن البيان هنا أن الناس قبل خبر القرآن هذا لم يكونوا على إدراك من أن اليهود، وعلماءهم كانوا يحرفون كلام الله، وهم الذين رفعوا أنفسهم إلى درجة البنوة لله تعالى، وأنه على حد زعمهم أفضل شعب على هذه البسيطة.
فالقرآن بخبره الجديد كشف مستورهم، وأظهر عوراتهم وأعطى معلومة جديدة تقول: إنهم أكذب شعب عرفته الدنيا على مر العصور.
2- كذلك أخبر القرآن الكريم أخباراً جديدة متعلقة بمجال العقيدة عند اليهود منها: زعمهم أن الله فقير وهم أغنياء!.
صرحوا بذلك مرة، وفي أخرى قالوا: إنه - تبارك وتعالى- بخيل يده مغلولة.
وعن الأولى تحدثت سورة آل عمران بقوله تعالى :
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) (آل عمران: 181 )
قال المفسرون : «إن جماعة من اليهود، وعلى رأسهم عالم من علمائهم، وحبر من أحبارهم يدعى -فنحاص- لما سمع قول الله تعالى :
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً)
( البقرة: 245)
فقال : إن الله فقير، فلما سمعه الصديق أبو بكر يتفوه بذلك ضربه على أم رأسه، وشجه في وجهه، فشكاه لرسول الله ﷺ وأنكر قوله، فنزلت الآية الكريمة تكذبه، وتؤكد على صدق الصديق (3).
وعن الثانية جاء قول الله تعالى في سورة المائدة مخبراً:
( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)
( المائدة: 64)
أي: بخيلة(4)
فرد سبحانه بقوله:
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة:64)
وهذا هو الحق، لأن الذي يملك الكون بما فيه لا يُعقل أن يكون فقيراً، لأن خزائنه لا تنضب، ولا تنتهي، وكذلك لا يُتصور أن يكون بخيلاً، لأن من أسمائه الرّزاق:
( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)
(الذاريات:58)
والرزاق هو الذي يرزق الخلائق بما فيهم اليهود في كل لحظة من لحظات الحياة، والواقع يشهد بذلك، فلا يصح، والحالة هكذا: أن يفتري أبناء هؤلاء على الله تعالى، ويسيئوا الأدب مع رب الأكوان، لأن الناس جميعاً إليه فقراء، وهو وحده المعطي لهم والمستحق للحمد، والشكر دون سواه ، قال تعالى:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)
(فاطر:15-17)
3- ومن الجديد أيضاً في دنيا الأخبار ما ذكره القرآن الكريم من حديث حول حمل مريم بمولودها الجديد دون أب ليكون آية على قدرة الله التي غفل عن تذكرها بنو إسرائيل، فجاءت بشرى الملائكة لمريم بهذا المولود(5)، ليبرهن وجوده في عالم الأطفال على أن الله تعالى لا ترتبط قدرته عز وجل بسبب كما يظن اليهود، بل يستطيع أن يخلق به بسبب ومن غير سبب، ويزيد في الخلق ما يشاء، وكيف يشاء، ومتى شاء، ولقد حكى القرآن الكريم أن الملائكة قصت طرفًا لمريم عن مستقبل الوليد في الدنيا، والآخرة، وذكرت اسمه، وبينت وظيفته في أنه سيكون نبياً، وعبداً لله، وطائعاً، وليس كما يظن...: إنه ابن لله عز وجل، أو هو الإله -تعالى الله، بل هو عبد أنعم الله عليه، وجعله مثلاً لبني إسرائيل، ولنسمع إلى طرف مما ذكره القرآن الكريم في ذلك في سورة آل عمران :
(إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ)
(آل عمران:45)
ولا تتعجبي من هذا الأمر، ولا تندهشي. بل تذكري قدرة الله واستطاعته على خرق العادات، فالطفل هذا سيخالف ما هو مألوف في دنيا الأحداث، منها أنه سينطق بلسان فصيح، وذلك بعد ولادته بقليل، ويسمع كلامه كل الحاضرين آنذاك:
( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:46)
وقد تحقق ذلك بالفعل، وجاء كلامه بعد ولادته مباشرةً، وحمل أمه له بين يديها، وخروجها به على قومه الذين أصابتهم الدهشة، ولحق الدوار برءوسهم بسبب ما رأوه، وما سمعوه، ومما سمعوه قوله كما قصت سورة مريم :
( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً)
(مريم: 29-31)
وهذه هي الخطوط العريضة لشخصيته، ووظيفته في الحياة، تحدث بها أولاً، ثم عقّب بعد ذلك بتبرئة أمه فقال:
( وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (مريم:32-34)
ولد، وسيعيش، وسيبلغ رسالة ربه، وسيموت، ويبعثُ حياً، ومن كان كذلك فهو ليس ابناً لله، ولا إله، لأن الإله لا تعتريه هذه الأحداث:
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم:35)(6)
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ)
(آل عمران:62)
أقول: لم تتحدث الأناجيل جمعاء، ومعها رسائل بولس، وبقية أسفار الكتاب المقدس عن هذا القصص الحق، وذكره القرآن الكريم بكل أمانة أمام الخلائق ليضع الأمور في نصابها، ويكشف النقاب عن شخصية المسيح، وولادته، ويبين زيف ما نسب إلى شخصه الكريم من البعض، ولو أن هذه الأخبار ذكرت في الكتاب المقدس قبله ما أنقصت من قدره \ ولا قدر أمه الطاهرة العفيفة، ولكن اليهود طمسوا كل ذلك، وغيروا، وبدلوا كلام الله والكثير من الحقائق(7).
فهل يقال- بعد هذه الحقائق الجديدة والتي غفل عنها الغافلون، وأعرض عنها المفترون-: إن القرآن استمد مادته من الكتاب المقدس قبله كما يدعي المستشرقون؟! وأين موضع هذه الأخبار في الكتاب المقدس؟ ومن الذي ذكرها؟ فليخبرنا المستشرقون عن ذلك إن استطاعوا؟ وإنا لمنتظرون!.
أما الجديد الذي أتى به القرآن في القضايا العلمية وشهد بها الباحثون في شتى المجالات فسيكون الحديث عنها في المقال التالي إن شاء الله تعالى .
(1) تفسير ابن كثير, ج 2 ص 62.
(2) للمزيد راجع المصدر السابق, ج 2 ص 62-64.
(3) راجع المصدر السابق, ج 1 ص 423.
(4) نفس المصدر ج 2 ص 81 .
(5) يجب أن يلاحظ أن متى ولوقا تحدثا عن ميلاد المسيح حديثاً مقتضباً ومتضارباً وهو بعيد عما ذكره القرآن تماما راجع ( المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها )
(6) يلاحظ أن المسيح - عليه السلام - تحدث في مجال العقيدة أولاً قبل تبرئته لأمه مع العلم أن الناس كانوا ينتظرون حديثه عن برائتها لكنه أراد - عليه السلام- أن يقول للسامعين: إن العقيدة أهم شيء في الحياة, وتصحيحها يجب أن يقدم على أي عمل آخر حتى وإن كان متعلقاً بعرض الإنسان وشرفه, فالعزة والشرف في التمسك بالعقيدة الصحيحة.
(7) للمزيد راجع ( المسيحية مصدر سابق) ص 26-30.