عقد الجامع الأزهر، اليوم الإثنين، اللقاء الأسبوعي للملتقى الفقهي (رؤية معاصرة) تحت عنوان: “العلماء نبراس الهدى.. الإمام أبو حنيفة نموذجًا"، بحضور: أ.د/ محمد محمد عبد الستار الجبالي، أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، وعضو لجنة الفتوى الرئيسة بالجامع الأزهر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، وأ.د/ عماد عبد النبي محمود، أستاذ أصول الفقه المساعد بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، وعضو لجنة الفتوى الرئيسة بالجامع الأزهر، وأدار الحوار د/ مصطفى شيشي، مدير إدارة شئون الأروقة.
في مستهل اللقاء، أكد الدكتور/ محمد الجبالي، أن العلماء هم ورثة الأنبياء؛ نظرًا للأهمية البالغة للعلم، ومما يدل على ذلك أن أول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة في قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكُ الْأَكْرَمُ}؛ مما يدل على أن القراءة هي الأساس والركيزة التي تنهض عليها المجتمعات وتُبنى عليها الحضارات، مشيرًا إلى أن القَسَم الإلهي في قوله تعالى: {نُ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} يُعدُّ دليلًا واضحًا على مكانة العلم السامية، ويؤكد اهتمام الإسلام الكبير بالعلم والعلماء، والآية الكريمة: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} خير دليل على قيمة أهل العلم، وقدرتهم على إدراك الحقائق التي قد لا يتوصل إليها غيرهم.
وأوضح الدكتور/ محمد الجبالي، أن هناك آدابًا يجب أن يتحلى بها كلٌّ من طالب العلم ومُعلِّمه، ويأتي في مقدمتها: الإخلاص لله تعالى؛ فمن سلك طريقًا للعلم يجب أن يبتغي بهذا العلم وجه الله تعالى والنفع للمجتمع، فغياب الإخلاص عن طالب العلم يجعل العمل بلا فائدة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن تعلم العلم ليُباهي به العلماء، أو يُماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار". ثانيًا- الوقار والسكينة والتواضع؛ لأن العلم لا يستقيم مع الكبر، ولا يؤتى مع المعصية، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، كما قال الإمام علي كرَّم الله وجهه بأن "العلم أفضل من المال"؛ ولهذا نجد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتسابقون على تحصيل العلم؛ لأن العلم يحرس الإنسان ويحميه، على عكس المال هو الذي يحتاج إلى حراسة وحماية.
وبيَّن فضيلة الدكتور/ محمد الجبالي، أن العلم لا يقتصر على العلم الشرعي، بل يشمل جميع فروع المعرفة والعلوم النافعة، وهذا الفهم الشامل يتفق مع الرؤية القرآنية التي ترفع شأن كل علم يقود إلى الإدراك الحقيقي لعظمة الخالق، ويحقق فائدة حقيقية للناس، وهذا ما يدل عليه القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
وأشار الدكتور/ محمد الجبالي، إلى أن الإمام أبا حنيفة وصف بأنه "مخ العلم"، وهذا الوصف يُعدُّ دليلًا قاطعًا على مكانته العلمية الرفيعة؛ لما له من إسهامات فقهية عظيمة لا تزال تضيء للبشرية طريقها، مشيرًا إلى أن الإمام لم يكن يتميز بكونه من كبار علماء زمانه فحسب، بل كان يتحلى بصفات شخصية رفيعة، مثل: الأمانة، والحلم، والصبر، والذكاء الفطري الذي بسطه الله عليه.
من جانبه، أكد الدكتور/ عماد عبد النبي، أن العلاقة بين العلماء الكبار تقوم على الحب والاحترام والتقدير المتبادل، مع إعطاء كل واحد منهم حقه ومكانته العلمية دون أي بخس، وهو ما يبرهن عليه موقف الإمام الشافعي الذي وصف الإمام أبا حنيفة بقوله: "الناس عِيَالٌ في الفقه على أبي حنيفة"؛ ليؤكد أن هذا الأدب الجم والتواضع هو ثمرة العلم الحقيقي، فالعلم يورث أصحابه السكينة؛ ولذلك فإن مجالسة العلماء تهذب النفس وترقيها، وتعلم الأجيال الجديدة أدب الخلاف وقيمة الاعتراف بالفضل لأهله، مشددًا على أن التنافس بين أهل العلم ينبغي أن يكون تنافسًا معرفيًّا بَنَّاءً، يهدف إلى إثراء العلم لا إقصاء صاحبه.
وأضاف الدكتور/ عماد عبد النبي، أن مذهب الإمام أبي حنيفة ملأ الدنيا بفضل اعتماده على منهج قوي ومنضبط في الاستدلال بالسنة؛ حيث وضع الإمام أبو حنيفة ضوابط صارمة لقبول الحديث؛ منها ألا يكون الحديث مصادمًا للأصول والقواعد العامة، وألا يكون الراوي قد خالف ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ألا يكون واردًا في قضايا عموم البلوى (أي ما تعم به الحاجة بين الناس) ، فهذه القيود كانت أساسية لضمان استقامة مذهبه الاستنباطي، إضافة إلى أن أبا حنفية كان ورعًا تقيًّا، فكان يخشى الله سبحانه وتعالى في كل شيء؛ لأن العلم الحقيقي هو الخشية.
يذكر أن الملتقى الفقهي يُعقد الإثنين من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، ويهدف إلى مناقشة المسائل الفقهية المعاصرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، والعمل على إيجاد حلول لها وفقًا للشريعة.