نعم انتهت داعش عسكريًّا ونجحت جهود دول العالم في استئصال هذا السرطان الذي استشرى في جسد الأمة بعد جهدٍ جهيدٍ، ولكن لا تزال آثار هذا التنظيم الإرهابي تتراءى على الساحة بين آثار منهوبة وبيوت مهدومة ونساء ثكلى وأشخاص جرحى. ومن الآثار السيئة التي خلفها التنظيم الإرهابي وراءه هؤلاء ممن اقتنعوا بفكره وتشبعوا بآرائه ورموا أنفسهم بين أحضانه، فإنه بعد الإتيان على هذا التنظيم المخيف وعلى رأسه، بات الخطر المحدق الآن متمثلا في هؤلاء؛ فماذا سيفعل بهم وهل تستعيدهم دولهم أم لا، لا سيما وأن معظمهم من دول غربية؟
بين الفينة والفينة، تطالعنا الصحف بمطالبات الولايات المتحدة للدول الأوروبية بتحمل التزاماتها ومسؤلياتها تجاه مواطنيها ممن انضموا لهذا التنظيم الإرهابي. وفي هذا الإطار، يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضغوطه على الحكومات الأوروبية لاستعادة مقاتليها الذين انضموا إلى صفوف داعش والمحتجزين حاليًّا في سجون مؤقتة شمال شرق سوريا.
فعلى هامش اجتماع قادة حلف الناتو المنعقد في لندن في 4 ديسمبر 2019 لوّح ترامب بهذا الأمر عدة مرات. وفيما يبدو ترامب حريص على إعادة هؤلاء إلى ديارهم، ولكن يرفض قادة أوروبا الفكرة من أساسها، الأمر الذي دعا ترامب في وقت سابق إلى التهديد بإطلاق سراحهم والدفع بهم للعودة إلى داخل البلدان الأوروبية في حالة امتنعت عن استعادتهم طواعية.
يُذكر أن البنتاغون قدّر أعداد مقاتلي داعش المحتجزين في سجون شمال شرق سوريا بنحو 10000 مقاتل، منهم حوالي 2000 مقاتل أجنبي من بلدان كثيرة في العالم، ويقدر عدد الأوروبيين منهم بحوالي 800 مقاتل. و هؤلاء جميعًا تحتجزهم القوات السورية التي يقودها الأتراك، والتي تعجز عن السيطرة عليهم لوقت طويل. بيد أن العديد من الدول الأوروبية تظهر ترددًا كبيرًا في استعادة مواطنيها الذين انضموا للقتال في صفوف داعش، فقد أظهرت نتائج أحد استطلاعات الرأي في فرنسا أن 89% من المشاركين في الاستطلاع يعارضون فكرة استعادة المقاتلين البالغين الذين قاتلوا مع داعش. وفي بريطانيا، يتحسس السياسيون الخطى، لا سيما والبلاد في طريقها لانتخاب برلمان جديد.
وفي السياق البلجيكي والفرنسي والألماني، يجد السياسيون أنفسهم في ورطة بسبب الرأي العام وكذلك بسبب الحوادث الإرهابية الأخيرة التي طالت البلاد. وعلى الرغم مما يعتقده معظم السياسيين والخبراء من أن استعادة المقاتلين أسلم وأكثر أمانا من تركهم في السجون التي لا تخضع للحماية الكافية، إلا أن التصريح بهذا الأمر ربما يعتبر انتحارًا سياسيًّا بحسب ما يراه محللون، حيث سيخسر هؤلاء أصواتًا كثيرة لناخبين لا يؤيدون الفكرة.
وفي الوقت الذي اتخذت فيه المملكة المتحدة والدنمارك إجراءات صارمة تجاه هذا الأمر، حيث أسقطت كل منهما الجنسية عن مقاتلي داعش وأفراد عائلاتهم، تفكر دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا والسويد في اتخاذ إجراءات مشابهة. فيما تتذرع دول أوروبية أخرى بصعوبة إدانة واعتقال مقاتلي داعش لعدم وجود الأدلة، وهذا يعني أنه ربما تعتقلهم لبعض الوقت ثم تطلقهم في الشوارع لعدم وجود ما يدينهم.
وفي السياق ذاته، تحاول بعض الدول التفكير خارج الصندوق؛ ففي فرنسا مثلًا تم إنشاء مراكز لنزع الفكر المتطرف لكنها فشلت بعد خمسة أشهر فقط من إنشائها في 2017، حتى إن السياسي الفرنسي المعروف فيليب باس وصف هذه المراكز "بالفشل الذريع".
وفي خضم هذه الأوضاع، لا يزال المراقبون يرون أن موقف الدول الأوروبية موقف متردد وسيظل كذلك، فهل يا ترى ستتحمل هذه الدول مسؤلياتها تجاه هؤلاء أم ستتركهم فريسة لأفكارهم المتطرفة التي لن تبرح حتى تجمعهم مرة ثانية ليخرجوا علينا بفكرٍ متطرف آخر أو بجماعة أخرى تأتي على الأخضر واليابس! ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو: "لماذا تترد هذه الدول في استعاة أبنائها الذين انضموا إلى التنظيم الإرهابي؟"
قد تكون الإجابة الأكثر ترجيحًا هو أن هذه الدول تخشى أن يبث هؤلاء أفكارهم المتطرفة في جموع مواطني بلادهم، فيكون الكسر من حيث أرادوا الجبر، ومن ثم يريحون أنفسهم من هذا العناء، بيد أنه إذا كان هذا هو الحل من وجهة نظرهم، فهل نتركهم فريسة للقتل أو لتكوين شبكات إرهابية أخرى تقض مضجع العالم وتؤرق أمنه وسلامته ليل نهار؟!
ومن منطلق أن الفكر لا يجابه إلا بالفكر وأن الحجة لا تجابه إلا بالحجة، يرى مرصد الأزهر أنه من الضروري إعداد برامج تأهيلية لهؤلاء على جميع المستويات ومحاورتهم بالمنطق والحجة وتطبيق القانون على من ارتكب منهم إثما أو جرما حتى نكون أعذرنا إلى أنفسنا وإلى الأجيال القادمة بوقايتهم من هذا الشر المبين الذي إذ لم نتدراك ناره، فإن خطره سيأتي على الأخضر واليابس.
وحدة الرصد باللغة الإنجليزية