المشاركون في ندوة "دعوة القرآن إلى الحوار والاعتدال": المولى حاور ملائكته ليعلمنا قيمة الحوار بين البشر
د. محمد البيومي: الإمام الأكبر أعاد الحياة لفلسفة الحوار كمنهجية أزهرية
د.محمد متولي منصور: التقليد الأعمى والتعصب .. أهم أسباب الاختلاف
د. أحمد الرفاعي: المنظومة التعليمية لها دور بارز في إنتاج مجتمع متحاور
د.هاشم النوري: مجاوزة الحد الشرعى بالإفراط أو التفريط .. غلو
أكد الدكتور محمد عبدالرحيم البيومى عميد كلية أصول الدين والدعوة جامعة الأزهر فرع الزقازيق أن الحوار في حقيقته بيان وتعليم من الله حيث أجراه مع ملائكته عند استخلاف آدم عليه السلام عندما قال للملائكة "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" فقالت الملائكة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".
وأوضح عميد الكلية، في كلمته التي ألقاها خلال الندوة التي نظمها قسم التفسير وعلوم القرآن بعنوان "دعوة القرآن الكريم إلى الحوار والاعتدال لا إلى الغلو والتطرف"، أنه لو وقفت الآية عند هذا الحد لمثلت حجرا على الرأي وكبتا للفكر، ولكن الله أعقبها بدليل عملي يؤكد لهم فيه صدق قضية الاستخلاف لآدم؛ حيث قال سبحانه "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
وأشار البيومي إلى أن قضية الحوار لها منزلتها بين الله وملائكته في هذا الموقف على أن الملائكة من صفاتها "لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ"، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بهذا الموقف أن يعلمنا أن الحوار له منزلته ورسوخه في مجالات العلاقات بين البشر لتصل إلى الحق بالكلمة الهادئة وشرعية الحيلة لا بالأسلحة الثقيلة وأصبح هنا قول الملائكة "سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"بمثابة القناعة الفكرية التى مثلت البرهان على قول الله لملائكته "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون".
منهجية الأزهر
ولفت عميد الكلية إلى أن هذه الندوة تأتي في ضوء منهجية الأزهر التي تبناها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، في ترسيخ فلسفة الحوار, وإعادة الحياة لها كمنهج له أهميته ودوره في نشر قيم الإسلام وبيان سماحته، مؤكدًا أن الحوار له أهميته في مخاطبة العقول في مجال الدعوة فالحق سبحانه قال لموسى عليه السلام "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى"، وكأن الطغيان علة للذهاب وكان الله يقول لكل داعية وعلى رأسهم موسى عليه السلام إن للناس عقولا يعتزون بها وبمحاورتها تخاطب عقولهم ليصل الإقناع بكم إلى النفس والذات والكيان، بل إن جماليات الكلمة في حقيقتها أساس للحوار في الإسلام، مصداقًا لقوله تعالى: "قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ" مع أن الأولى أن تكون المقابلة ولا نسأل عما تجرمون، مشددًا على أن أن الأدب القرآنى علمنا احترام الخصم حال الحديث معه ونحن في ذروة النفوذ منه، مطالبًا المضي على منهج المولى في محكم التنزيل: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، موضحًا أن الشريعة الإسلامية احترمت النفس غير المسلمة هيبة لخالقها وأحسنت إلى الحيوان نظرا لأنه من مخلوقات الله بل إن لها مع الحجر قصة عشق علمها إياها رسول الإسلام عندما ربطها بلغة حوارية مع الزمان والمكان وصدق النبى صلى الله عليه وسلم حين قال "أحد جبل يحبنا ونحبه".
في سياق متصل،أوضح الدكتور محمد متولي منصور أستاذ ورئيس قسم أصول اللغة بجامعة الأزهر، أن الله حين أذن للأرض أن تتصل بالسماء أمر جبريل عليه السلام أن يتنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وأن يقول له ثلاثا: "اقرأ باسم ربك الذى خلق"، فالقراءة هي مفتاح العلوم، والعلم في الإسلام وسيلة وغاية، لكنه في الأمم السابقة غاية في حد ذاته، مشيرًا إلى أن من مميزات قراءتنا ارتباطها بمنهج السماء، أما الأمم الأخرى فإنها في قراءتها ترتبط بمناهج وضعية، موضحًا أن أول الناس الذين يجب أن تتكامل علومهم هم المسلمون وعلى رأسهم علماء الأزهر، لافتًا إلى أن الاسلام دين الحوار والنقاش، وقد ذكر فعل يقول 1700مرة في القرآن الكريم وهى كلها تدل على الحوار، وهناك محاورات في القرآن الكريم بين الله تعالى ومخلوقاته من الرسل الكرام، والمولى تعالى والملائكة، وبين الله والشيطان، والرسل وأقوامهم، والأخيار والأشرار، والأخيار فيما بينهم، والأشرار فيما بينهم، وقد تأثر رسول الله بالقرآن في كل مجالات الحوار، مع الأتباع والأعداء، وقد كان القرآن موطن الحوار المعجزة الأولى من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
أسباب الاختلاف
وأشار متولي إلى أن من أهم أسباب اختلاف الناس عدم وضوح الرؤية للموضوع المختلف فيه من كل جوانبه، والعكوف على تقلييد الغير دون دليل أو برهان، مصداقًا لقوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"، مؤكدًا أن من أهم هذه الأسباب التعصب للرأى والحسد للغير على فضل الله تعالى، مصداقًا لقوله: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ"، مشيرا إلى أن للحوار أسسًا في الإسلام؛ وله مبادئ وآداب لضبط المناقشات بين الناس، أولها التزام الصدق؛ موضحا ذلك من حوار سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون وصدق نبي الله فيما دعا إليه، والتزام الموضوعية؛ ويقصد بها عدم الخروج عن الموضوع محل النزاع أو الخلاف، وإقامة الحجة بمنطق سليم؛ مدعمًا ذلك بحوار سيدنا إبراهيم مع النمرود، وأن يكون الهدف الوصول للحقيقة والتواضع والتزام أدب الحديث؛ وإعطاء المعارض حقه في التعبير؛ كما قال أحد الفقهاء رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب، واحترام الرأي الصائب؛ ومن الصور المشرفة في احترام الرأي الصائب ما قاله الله تعالى: " وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ"، وتحديد مسألة الحوار وعدم التعميم في المسائل؛ " لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"، وأن يقوم الحوار على الحقائق الثابته؛ فالاختلاف في الحقائق يولد الاختلاف في الآراء، ومن ثم تتعدد المذاهب والمدارس الفكرية.
صناعة شخصية العالم
وأوضح الدكتور أحمد الرفاعي بهجت أستاذ أصول اللغة ورئيس جامعة الزقازيق الأسبق أن للجامعات ومؤسسات المجتمع المدني دورًا كبيرًا في إرساء الحوار، متسائلا عن وجود الحوار بين الناس في هذه الأيام، هل هو موجود بشكل كامل أم أنه مظهر فقط؟، مشيرا إلى أن المنظومة التعليمية، المتمثلة في "المعلم والطالب والمنهج، والإدارة" لها دور بارز في إرساء الحوار وإنتاج مجتمع منفتح متفاعل متحاور، مؤكدا أنه يجب أن يكون الأستاذ فكرا راقيا، كما يجب مشاركة الجميع وتعليم الطلاب على أن نسعى لتطوير ما لدينا من معلومات من خلال المصابرة على العلم والاهتمام بدراسته، مشيدًا بدور الأزهر في صناعة شخصية العالم على أساس معرفى متقدم يدعم الحوار والنقاش، مشيرا إلى أن الجامعات العالمية لها دور في التربية بإمكان لا تزيد عن إمكانيات الجامعات العربية، موضحًا أن الجامعات العالمية ترتكز في التربية على النزعة الإنسانية في نفس المتعلم، ومن خلالها يتم توجيهه إلى فعل الخير وإبعاده عن فعل الشر.
ولفت الرفاعي إلى عدة طرق للخلاص من فقدان الحوار تتمثل في عدة أمور منها الاتقان في العمل والإبداع فيه والحوار من أجله والإخلاص منه، وتفعيل دور التعليم والتعلم من خلال عودة دور الطالب في صياغة المنهج والعملية التعليمية، والتقييم المستمر للطالب سلوكا وأخلاقا، وتفاعلا وعلما ثم يأتى دور الامتحان لاستدراك الفائدة من كل ما سبق، وتفعيل دور الجودة ليس عن طريق ضبط الأوراق والوثائق، وإنما عن طريق الاجادة الحقيقية وقياس الأدوات المختلفة، والتغلب على معوقات الحوار مثل الإقصاء، والعنصرية، ونبذ الآخر، واحتقار المخالف ونحو ذلك، وتقوى الله عز وجل مثل كل شيء، مع استقاء العلم من الأساتذة المخلصين، وحمل هم نهضة المجتمع والاهتمام بالأنشطة الطلابية.
مدارس الفكر
وقال الدكتور محمد هاشم النورى أستاذ التفسير وعلوم القرآن بالكلية إن هناك مدرستين للفكر منذ بدأ الخليقة وهما المدرسة الجادة في فكرها ونهجها وتوجهها، والمدرسة العبثية غير المؤمنة ذات الفكر المتطرف والرؤية الآثمة، موضحًا أنه من الأهمية بمكان على المستوى الفردي والجماعي والأممي أن يعرف الإنسان هدفه، وأن يجاهد من أجل الحصول عليه، ولابد للتربية أن تتجه لهذا الهدف، مشيرًا إلى أن علوم الدين والكون تتكاتف على بناء الحضارة الإنسانية، التي توازن بين القوى والمصالح، وفي القرآن الكريم آية تؤصل لهذه الحضارة، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"؛ في إشارة إلى النظام الإنتاجي والحركة الدؤوبة الراعية لحاجات المجتمع، مستشهدًا بقوله تعالى: "وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ" بصفتها دعوة إلى تأسيس نظام استهلاكي معتدل يوازن بين الصادر والوارد، والإنتاج والاستهلاك، أى كلوا بعض ما تنتجون وليس كله، " إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ "؛ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي نظام ضابط لحركة الإنسان وأعماله وفق الأدب الرباني والمنهج الإلهي، تلك هى أصول الحضارة الإنسانية التى توازن بين الدنيا والآخرة، مضيفا أن مجاوزة الحد الشرعي بالإفراط أو التفريط يعد غلوا، مؤكدا أنه لا ينبغي ربط التطرف بمجرد التدين، وإنما يأتي التطرف مع التشدد والمبالغ فيه بلا برهان، سواء في المظهر أو الجوهر.
أحمد نبيوة
2631