مأساة مسلمى الروهينجا

 

عواصف الفكر: تطرف القُصَّر في إسبانيا بين خيوط الإنترنت وقيود المخدرات
Sameh Eledwy

عواصف الفكر: تطرف القُصَّر في إسبانيا بين خيوط الإنترنت وقيود المخدرات

     يُعد التطرف الذي يكتسب اهتمامًا متزايدًا بين الشباب ظاهرة عابرة للحدود تثير قلق كثير من الدول حول العالم. وتتسم هذه الظاهرة بالارتفاع الشديد في وتيرتها، ويعزى ذلك جزئيًّا إلى التأثيرات العميقة للعصر الرقمي وتطور وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ إن الانغماس العميق في عوالم الإنترنت أفقد الشباب توازنهم، وجعلهم عاجزين عن تمييز الحقيقة من الخيال، ما يجعلهم عرضة للتأثيرات السلبية والدعوات المتطرفة التي قد تستحوذ على عقولهم. كما أن للتعليم والبيئة الاجتماعية دورًا بارزًا في تعزيز انغماس الشباب في أفكار التطرف، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تسهم في جذبهم نحو السلوكيات المتطرفة، فتغدو تلك الأفكار أكثر قبولًا وانتشارًا. كما لا يمكن إغفال الدور الفعَّال لوسائل الإعلام والسياسات العامة في توجيه وجهات نظر الشباب، وتأثيرها العميق في تشكيل أفكارهم وسلوكياتهم. إضافةً إلى ذلك، تنهض العوامل النفسية والاجتماعية بدور مهم في تحديد قدرة الشباب على مقاومة الأفكار المتطرفة والخطرة. وعلى ضوء ذلك، نجد أن العوامل الثقافية والدينية لها دور حاسم في تشكيل معتقدات الشباب وقدرتهم على التمييز بين الصواب والخطأ، ما يستدعي فهمًا عميقًا وتحليلًا شاملًا لهذه الجوانب المعقدة، من أجل وضع إستراتيجيات فعَّالة لمواجهة التطرف، وحماية الشباب من خطر الانجذاب إلى الأفكار الضارة والمتطرفة.

إن تزايد تهديد أنشطة التنظيمات المتطرفة في أوروبا، ولا سيما في إسبانيا، بات يشكل قلقًا عميقًا يُثير العقول ويُربك النفوس. فقد أظهر تقرير نشرته صحيفة "لا راثون" الإسبانية في 24 من سبتمبر 2024، أن الأحكام القضائية تكشف عن تصاعد ظاهرة تطرف الشباب، والقُصَّر على وجه الخصوص، من خلال شبكة الإنترنت والعوالم الافتراضية. وتستهدف هذه الشرور الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمثل سلاحًا مزدوجًا؛ إذ تستدرجهم إلى أفكار مُلتوية تُخاطب فراغات هويتهم، وتُشعل نيران التطرف في قلوبهم. فالإنترنت -حسب تقرير النيابة العامة الإسبانية- يُعدُّ الدافع الرئيس لهذا التطرف الذي يعصف بشباب إسبانيا، إذ يشكل فضاءً مفتوحًا يتيح لدعاة التطرف استغلال مشاعر الاغتراب والقلق لدى هؤلاء الشباب. كما تُقَدِّم شبكات التواصل الاجتماعي -حسب التقرير ذاته- رؤى مُبسَّطة ومغرية تهدف لجذب الشباب الذين يعانون من شهوة العدم والاكتئاب. وفي ظل هذه الظروف، يصبح الإنترنت ملجأً لهؤلاء الشباب، إذ يستغله دُعاة التطرف لطرح حلول كاذبة تُظهر العنف بوصفه وسيلة لتحقيق العدالة والسعادة. وبالتالي، تُغرق هذه الأفكار الشباب في دوامة من الغموض، حيث يُقدَّم العنفُ بوصفه خيارًا مشروعًا لمواجهة الإحباطات التي تعترضهم في حياتهم اليومية. وتتعدد الأساليب التي تُستخدم لتوجيه الشباب نحو التطرف، بدءًا من المنشورات التي تُظهر تمجيدًا للعنف، ووصولًا إلى مقاطع الفيديو التي تروج لمفاهيم متطرفة؛ إذ تجعل هذه الوسائل من السهل على هؤلاء الدعاة الوصول إلى عقول الشباب، مُستفيدين من ضعفهم النفسي وحاجتهم إلى الانتماء.

ولعل ما يميز التهديدات المتطرفة عما سواها من أشكال الإرهاب في إسبانيا هو طبيعتها الرقمية والافتراضية التي تتيح استهداف الشباب الأكثر هشاشة نفسيًّا واجتماعيًّا عبر شبكة الإنترنت. وتختلف هذه الطريقة اختلافًا جذريًّا عن الأساليب التقليدية التي كانت تعتمد على التنظيمات السرية والهجمات الميدانية، فقد سهلت التكنولوجيا الحديثة وصول التنظيمات المتطرفة إلى أوسع قاعدة ممكنة من الشباب عبر الدول، ما يزيد في تعقيد التحديات الأمنية. وتركز التنظيمات الإرهابية على القُصَّر لعوامل عدة، من بينها الاندفاع والبراءة الفكرية، وفراغات العاطفة والاجتماع، إضافة إلى التأثيرات النفسية والسلوكية التي توجه هؤلاء الشباب نحو رؤية مشوهة للحياة.

ولم يكن الإنترنت وحده المسئول عن تفشي ظاهرة التطرف في صفوف الشباب، بل أشار التقرير إلى دورٍ آخر لا يقل أهمية، يتمثل في المخدرات والكحول، وهي عوامل تسهم أيما إسهام في زيادة قابلية هؤلاء الشباب للانزلاق نحو الأفكار المتطرفة. إن الإدمان على المواد المخدرة والكحول يضفي طابعًا من التشوش على الإدراك، ما يعوق قدرة الفرد على التفكير النقدي والتحليل المنطقي، ويُسهل الانجراف نحو أيديولوجيات مشوهة. علاوة على ذلك، يُعزز استخدام المخدرات والكحول من تفاقم المشكلة، لأنها تجعل الشباب أكثر عرضة للاختراق النفسي والتلاعب العقلي. فالعوامل المتمثلة في الفوضى الداخلية والفراغ العاطفي الذي يعاني منه هؤلاء الشباب تزداد حدة، ما يؤدي إلى تكوين شخصيات هشة يسهل توجيهها نحو مسارات مدمرة، ومن ثم تصبح هذه المواد أدوات لتعميق الأزمات النفسية، فيزيد إغراء الانخراط في تيارات متطرفة تمثل بالنسبة لهم ملاذًا زائفًا للهروب من الواقع؛ لذا فإن مواجهة هذه الظواهر تتطلب رؤية شاملة تتناول الأسباب الجذرية، وتعزز الوعي بأهمية الصحة النفسية، وتوفر بدائل إيجابية تعيد الشباب إلى المسار الصحيح.

وفي خضمِّ تلك التغيرات المتسارعة التي تشهدها المجتمعات الأوروبية، يطفو على السطح في إسبانيا شبح "التهديدات المتطرفة"، الذي يُشكل اليوم تهديدًا فريدًا لأمن الأمم واستقرارها عمومًا. فقد أظهرت الأحداث المتلاحقة أن هذا النوع من الإرهاب قد استطاع أن يتجاوز كل التحديات التي واجهته، ليبقى خطرًا داهمًا يهدد كيان المجتمعات. وفي إسبانيا تمكنت أجهزة الأمن والقضاء من اجتثاث عدد من الظواهر الإرهابية التي أدمت القلوب وأثارت الفزع في النفوس؛ فقد أُسقطت تنظيمات مثل "غراپو"، وهزمت "إيتا"، وانتهت ممارسات "المقاومة الجيليقية"، ما يعكس نجاح الجهود الأمنية والقضائية في محاربة هذه التنظيمات. غير أن هذا النجاح لم يكن كافيًا لردع ما يسمى "التهديدات المتطرفة"، التي تحمل في طياتها سماتٍ وخصائصَ تتجاوز ما اعتدنا عليه في السياقات المحلية؛ إذ يعكس هذا الإرهاب تنوعًا في أساليب القتال وتحديات جديدة تتطلب من المجتمع الدولي تكثيف الجهود لمواجهتها. فالتهديدات المتطرفة لا تقتصر على أعمال عنف، بل تتعدى ذلك إلى إستراتيجية شاملة تستهدف العقول والقلوب، مستخدمة في ذلك أدواتٍ حديثةً ومبتكرةً. إنها تتغذى على الأيديولوجيات المتطرفة، وتجيد استخدام التكنولوجيا في نشر أفكارها المسمومة، ما يجعلها ظاهرةً تحتاج إلى معالجة عميقة وشاملة.

ويرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن مواجهة هذا التحدي تتطلب تكاتف الجهود بين الأسر والمدارس والمؤسسات الرسمية والمجتمعية، لتوفير بيئة آمنة وصحية تمكِّن الشباب من تطوير هويتهم بعيدًا عن الأفكار المتطرفة. كما يجب أن تُعزز البرامج التعليمية قيم التسامح والتفاهم، وتُوفر الدعم النفسي والاجتماعي لمن يعاني الأزمات؛ إذ يُظهر التقرير كيف أن الإنترنت، رغم فوائده، يُمكن أن يكون سلاحًا مدمّرًا في أيدي المتطرفين. لذا فإن العمل على توعية الشباب بمخاطر هذه الأفكار، وتوفير البدائل الإيجابية، يُعتبر أولوية قصوى في مواجهة هذه الظاهرة المتنامية.

 إن الفهم الدقيق لخصائص هذا الإرهاب وأبعاده الاجتماعية والسياسية يُعتبر خطوةً أساسية في مواجهة هذه التحديات. كما يتطلب الأمر تكاتف الجهود على المستويات المحلية والدولية، وتفعيل آليات التعاون بين الدول لمكافحة هذه الظاهرة التي تهدد السلم والأمن، إذ يُعدُّ الإرهاب بمثابة امتحانٍ حقيقي لقوة المجتمعات وقدرتها على الصمود. ومن المؤكد أن استمرارية هذا التهديد بهذه الوتيرة تدعونا إلى التفكير بعمق في سبل الوقاية والتقليل من أثره؛ فدون ذلك قد نجد أنفسنا أمام تحديات كبرى، تحتم علينا إعادة النظر في الإستراتيجيات الأمنية والسياسية.

 

وحدة الرصد باللغة الإسبانية

 

الموضوع السابق كيف يواجه العالم إستراتيجية تغيير الجلد لتنظيم داعش؟
الموضوع التالي مدير وعظ سوهاج يَتفقَّد البرنامج التدريبي «تنمية المهارات اللغوية والإلقاء الخطابي»
طباعة
281

أخبار متعلقة